لسنوات طويلة منذ مطلع القرن التاسع عشر، ظللنا ندرس العمارة الإسلامية كإرث حضاري ورثناه عن أجدادنا، وتخلينا عنه برغبتنا، لمسايرة الجديد في مجال العمارة، وظل الدارسون يُدخلون هذه المخلَّفات المادية للحضارة الإسلامية ضمن تراث طواه الزمن بحكم التقادم، فأصبح مزاراً سياحياً، أو جزءاً من تاريخ العمارة. ولكن، لصمود الكثير من المدن الإسلامية ولاحتفاظها بحيويتها، ظلت صورة الحياة فيها مثالاً حياً نستطيع أن نتعايش معه يوماً بيوم، بل تجعلنا هذه المدن نفهم أكثر فأكثر ماهية العمارة الإسلامية، وليس أدل على ذلك من مدن مثل فاس وزبيد وصنعاء وحلب ورشيد وغيرها. إن الفجوة بين مجتمعاتنا وفهم التراث العمراني والمعماري للمدن الإسلامية كبيرة، فالكل جرى وراء الشكل المبهر لها من دون المضمون، والمعماريون لم يتعمقوا لفهم روح العمارة كي يعيدوا إنتاجها في قالب يتناسب مع روح العصر، والأثريون تعاملوا معها من الناحية الجمالية والوصفية من دون أن يستنطقوا الحجر ليدلهم على إبداع من تعاملوا معه. وكي نخرج من هذا المعترك وهذا الطريق المسدود، وكي يكون لنا علم معماري مستقل بتصميماته ومضامينه، فلا بد من أن نفهم العمارة الإسلامية كما فهمنا إسلامنا. ويقوم المدخل لفهم العمارة الإسلامية على محاور عدة: المحور الأول يرتكز على دراسة القانون الحاكم لها، وهو فقه العمارة. وفقه العمارة هو مجموعة القواعد الفقهية التي تراكمت بمرور الزمن نتيجة لاحتكاك حركة كلا العمران والمجتمع بعضهما ببعض، ونشوء تساؤلات أجاب عنها الفقهاء. أدى تراكم هذه التساؤلات إلى تفنين القواعد التي حكمت حركية العمران في المجتمعات الإسلامية، وهي القواعد التي كان كلٌّ من المجتمع والسلطة والمهندسين يحتكمون إليها عند اللزوم، وهو ما سجلته سجلات المحاكم الشرعية في القاهرة ورشيد وتونس على سبيل المثال. وهذا ما فصَّلتُه في كتابي «فقه العمارة الإسلامية». وأول من سجل قواعد فقه العمارة من الفقهاء ابن عبد الحكم، الفقيه المصري المتوفى سنة 214 ه / 829 م في كتابه «البنيان». وقسَّم الفقهاء أحكام البنايات إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي: البناء الواجب، مثل بناء دور العبادة -كالمساجد- لتقام فيها الصلوات، وبناء الحصون والأربطة للدفاع عن ديار المسلمين. البناء المندوب: كبناء المنابر، ويُندب بناؤها للأذان، لكي يسرع الناس لأداء الصلاة، وبناء الأسواق، لحاجة الناس للسلع، وكي لا يتكلفوا عناء البحث عنها، فندب الشرع بناءها لكي يستقر فيها أصحاب السلع ويَسْهُلَ على الناس شراؤها. البناء المباح: مثل بناء المساكن، التي تبنى بهدف الاستغلال، فمن المعروف أن الشريعة جاءت لحفظ المقاصد الخمسة: الدين، النفس، المال، العرض، والنسل، والله جعل أسباباً مادية يقوم بها البشر كي يحققوا تلك المقاصد، ومن هذه الأسباب بناء المساكن والدور، التي تحفظ على الناس أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وتقوم فيها الأسر. البناء المحظور: كبناء دور السكر والبغاء، والبناء على المقابر، وفى أرض الغير. ومحور فقه العمارة يجب أن يدرَّس في كليات الهندسة المعمارية في جامعاتنا، كي نخرِّج جيلاً جديداً من المعماريين لديه قدرة على تقديم عمارة إسلامية معاصرة. والمحور الثاني لفهم العمارة، هو التعامل معها على أنها تخص المجتمع كله، لا على كونها عمارة أفراد، فاليوم يبني الفرد منزله من دون أن يراعي جاره، ومن دون أن يدرك الخصوصية الأسرية، ومن دون أن يدرك أنه يتعاطى من خلال منزله مع أهل الشارع الذي يسكن فيه. كل هذه أبعاد غائبة اليوم، ولكنها كانت موجودة بالأمس، حين لم يكن جار يستطيع فتح نافذة تكشف جاره، لأنه بذلك يخالف حكماً في فقه العمارة يُعرف بضرر الكشف، وكان سكان الحارة يتعاونون لصيانة مرافقها، لأن سلطتهم مستمَدّة من سلطة المجتمع المدني الإسلامي، الذي يقوم على أن الحارة وحدة إدارية متكاملة مستقلة تقوم بذاتها، فلم يكن هناك بالتالي أي ترهل إداري لدى سلطات المدن الإسلامية، وكانت بوابة الحارة رمزاً لتضامن أهلها في حراستها وفي حياتهم داخلها. والمحور الثالث لفهم العمارة الإسلامية يقوم على تضامن أثرياء المجتمع بعضهم مع بعض لتوفير الخدمات لسكان المدينة، فالغني كان يبني سبيل المياه لتوفير الماء للمارة في الحر القائظ، وكان يبني كُتاباً فوق السبيل لتعليم أبناء فقراء المسلمين، وكان يبني مدرسة لاستكمال تعليمهم، ووكالة للصرف من ريعها على هذه المنشآت الخدمية. ولذا، يُعَدّ نظام الوقف في الإسلام أحد المداخل المهمة لفهم طبيعة المنشآت الخدمية والمنشآت الاقتصادية في العمارة الإسلامية ودورها. والمحور الرابع لفهم العمارة الإسلامية يقوم على فهم دور المهندسين في المجتمعات الإسلامية، فقد كان المهندس المسلم يتعاطى مع العمارة من خلال المجتمع واحتكاكه بمستخدمي هذه العمارة، وبالتالي جاءت منشآته لتلبي حاجة المستخدمين، ولذا قلما نجد إضافات أو تعديلات من القاطنين عقب الانتهاء من المنشأة، بينما نرى اليوم القاطنين أو المستخدمين يُجرون في العادة تعديلات لا حصر لها على مساكنهم على سبيل المثال، لأن المهندس المعماري صممها وهو في مكتب مكيف الهواء، من دون أن يجهد نفسه في فهم حاجات مستخدِمي تصميمه وتقاليدهم. والمحور الخامس يقوم على التجاوب بين الناشئة والعمارة الإسلامية التراثية، من خلال تنظيم زيارات لهم لهذا التراث وتقديم شرح مبسط عنه، ما سيُوجِد تجاوب الناشئة مع هذا عمائر هذا التراث، من خلال رسمهم لعناصرها، وكذلك تخيلهم للحياة فيها. والمحور السادس هو التعرف على مفردات العمارة الإسلامية والمصطلحات الدالة عليها، ومن هذه المفردات مثلاً «المدخل المنكسر»، وهو عنصر معماري ابتكره المسلمون لكي يمنع المار من أمام باب المسكن أو المسجد أو المدرسة من كشف من بداخلها، وبالتالي يوفر درجة عالية من الخصوصية، كما يكسر حدة الضوضاء في الخارج، ويعزل المنشأة عنه، وبالتالي كان من المهم استخدامه في المنشآت الدينية والتعليمية. ووصلتنا أوصاف دقيقة للعناصر أو المفردات المعمارية في حجج وقف المنشآت الإسلامية التراثية، نستطيع من خلالها التعرف على هذه المفردات والمصطلحات الدالة عليها. ومن المصطلحات أيضاً مصطلح (شاذروان) وهو مصطلح فارسي معرب، يدل على لوح رخامي يعلوه صدر مقرنص، هذا اللوح كانت فيه نتوءات بارزة تجري من خلالها المياه فتبرد وتقدَّم للمارين أمام الأسبلة مبرَّدة. ومصطلح (أبلق) الذي يَرِدُ للدلالة على تناوب ألوان الرخام في المنشآت ما بين اللونين الأبيض والأسود، والمصطلحات الخاصة بالعقود وأنواعها، مثل: عقد مدائني مجرد، وعقد مدائني مقرنص، وعقد مدائني مخصوص، وعقد مجرد، وعقد مخموس. والمحور السابع يرتكز على التعرف على أنواع العمائر الإسلامية، كالمساجد الجامعة، ومساجد الصلوات الخمس، والفرق بينها وبين التكايا والأربطة ودور المشايخ والأسبلة والسقايات وأحواض سقي الدواب والرباع، وهي منشآت سكنية تضم وحدات رأسية تُستأجر للسكن والحمامات والمنشآت المائية، كالمقاييس والكباري والجسور والأفلاج ومجرى العيون، والمنشآت الصناعية كقاعات صناعة السكر، ودور الطراز التي كان يصنع فيها النسيج الملكي ومعامل البارود وقاعات الصباغة ومحال صناعة الأخشاب... إلخ. والجانب المهم الذي يجب تضمينه في هذا المحور، هو تخطيط المدن الإسلامية، ذلك التخطيط الذي نتج من تراكم الخبرات في الحضارة الإسلامية، ولم يستطع الغربيون إدراكه إلا في السنوات الأخيرة، ولكننا للأسف في جامعاتنا لم نزل نهمله حتى الآن.