بعد أيام يخرج دوّار «الفلك» من ذاكرة جدة إلى الأبد، وستتدحرج «الدراجة الكبيرة» من موقعها إلى مجهول «الأمانة»، تلك الدراجة التي حلمنا بقيادتها واللعب بها، على رغم حجمها الضخم، وكيف كان خيالنا الواسع ونحن صغار يتصور أن عملاقاً كبيراً يأتي إلى جدة كل مساء ليلعب بها في الشوارع الخالية بعد أن ننام. ما يحدث يسير ضمن «غيبوبة» تعرية المدن من ذاكرتها، بوعي أحياناً ومن دون وعي أحياناً أخرى، وهو ما حدث نفسه بلا «انتباه» منا، في مكةالمكرمة والمدينة المنورة، والطائف والرياض وأبها والأحساء، وبقية مدننا العتيقة، عندما اختفت مساجدها وأسوارها وقبابها وحدائقها وأسواقها وآبارها المقدسة، في أقسى تجريد لذاكرة الإنسان والمكان، وهو أمر يتكرر، مع الأسف، مرة أخرى في ميادين جدة، وفي ساحة البحار في «أبها» اليوم. كلنا نعرف تماماً الفرق بين أن تحل مشكلة تنموية، وبين أن تقضي على ذاكرة الناس، المشكلة الحقيقية أننا جميعاً نخلط بين حاجاتنا الملحة، وبين عدم مراعاتنا لجارنا التاريخ، حبيبتنا الذاكرة، وقريبتنا المشاعر. وهل من المهم أو من الضروري أن نسير بلا تاريخ؟ وأن المشروع الذي فكرنا به «اليوم» لا يقوم وينشأ إلا بهدم وإزالة حي «الأمس»، أو مسجد شريف، أو ماء مقدس، وقصر منيف، وشجرة عتيقة؟ كلها أمور لا نعرف، مع الأسف، كيفية التعامل معها والتحايل بكل علوم الأرض من أجل إبقائها، لكي نكحل أعيننا بها، ونميل بقلوبنا إليها عندما يزيد الحنين ويكثر الشوق، في العام 82، قامت بلدية الطائف بوضع أنياب بلدوزاراتها في حي السليمانية العتيق، وانتزعت روح الطائف بلا رحمة، هدمت الخانات والشوارع والأزقة والحمامات العامة، قتلت ذاكرةً حملت آهات الناس وأحلامهم وأفكارهم التي التصقت بجدران الحي وحجارته على مدى مئات السنين. كانت الفكرة الملحة وقتها هي هدم الحي فقط، لم يكن هناك من حلول حقيقية وبديلة، اليوم وبعد 30 عاماً لا يوجد حي السليمانية، فقط برحة واسعة لم يُبنَ فيها شيء، وإن بُني فهو نزر يسير، لا ينتمي للفكرة التي بررت الهدم وقتها. ولنقل إن ذلك الهدم جاء نتيجة حماسة الطفرة الأولى، وفي غفلة من «قدسية الذاكرة»، لكن لماذا نكرر ذلك الهدم من جديد، أين ما تعلمتموه يا مهندسي بلدياتنا، أين تصاميمكم المبتكرة لإبقاء تاريخنا كما هو من دون هدم، لماذا نلجأ لأسهل الحلول، نهدم الجبل لنبني حياً مستوياً، فقط لأننا لا نريد أن نتعامل مع تضاريس الجبال، على رغم أن الله خلق الجبل وخلق السهل، وعلى رغم أن كل أمم الأرض، ومن ضمنهم أجدادنا، تعاملوا مع الجبال باعتبارها مكاناً يمكن التعامل معها والتعايش والإبداع فيها، بينما نحن، وعلى رغم إمكاناتنا المهولة، لم نجد غير أن نسويها بالأرض. لنعد إلى دوّار «الفلك» بجدة، ومن قبله دوّار «الصاروخ»، ودوّار «السفن»، وكل إيقونات جدة التي اختفت، بدءاً من «أهلّة» جدة، التي زينت طريق الحرمين، ولنسافر للغرب لنجد مطعماً عمره 1000 عام، أو جسراً يقوم منذ 2000 عام، أو زقاقاً مر بها شاعر أو عازف من القرن الرابع الميلادي، لكنهم حفظوها، داروا حولها، تجنبوا خنقها وقتلها، أبقوها لأبنائهم وأحفادهم، بينما نحن نضيق بها ونئدها قبل أن تبلغ الحلم. هلا تركتم لنا ولأبنائنا شيئاً نتبادل به الحكايات والذكريات معهم، ونحكي قصصاً خيالية عنها، وإذا ضاق بنا الحاضر لجأنا إليها نُقبل فيها أيامنا وقصصنا القديمة. [email protected] twitter | @dad6176