بعد طول انقطاع أصدرت سلسلة «إبداعات عالمية» الكويتية رواية من البلقان، ألا وهي «موطن الألم» للروائية الكرواتية دوبرافكا أوجاريسك (والصحيح أوغريشيتش) بترجمة محمد فرغل ومراجعة سامية دياب. وكانت السلسلة الأصلية «من المسرح العالمي» التي انطلقت في 1969 أكثر انفتاحاً على أدب البلقان قبل أن تنضم إلى المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب وتتحول في 1994 إلى «إبداعات عالمية». وبالمقارنة مع الموجة الأولى التي كانت تترجم عن اللغات البلقانية مباشرة نجد أن هذه الرواية وصلت إلى القارئ العربي من طريق الإنكليزية، بعد أن صدرت في الكرواتية عام 2004 وترجمت إلى الإنكليزية في 2005. وبعبارة أخرى، وبصرف النظر عمن لدينا من عارفين ومترجمين لأدب البلقان، نجد أن معيار الترجمة إلى اللغة الإنكليزية هو من يحكم في وصول مثل هذا الأدب إلى القارئ العربي. وطالما أن بطلة الرواية، التي سنتحدث عنها لاحقاً، كانت معلمة لغة و مهووسة بالحفاظ على لغتها من التشويهات التي أخذت تلحق بها فإنّ الرواية كما صدرت الآن في العربية تشوّه الكثير من الأسماء سواء بسبب قراءة هذه الأسماء باللغة الإنكليزية أو من خلال المراجعة التي حوّلت بعض الأسماء المميزة في السلافية إلى ما هو بعيد من الأصل (غوران إلى جوران وأولغا إلى أولجا إلخ). وكان من المفترض أن تكون المراجعة على علاقة باللغات والآداب السلافية حتى تصوّب ما هو موجود من أخطاء في الأسماء بسبب الترجمة من الإنكليزية. وما عدا ذلك يمكن القول إن لدينا ترجمة ممتازة لهذه الرواية بخاصة أن المترجم محمد فرغل قد أثبت نفسه سابقاً في ترجمة رواية «الطريق» للكاتب الأميركي كورماك مكارثي، التي صدرت أيضاً عن «إبداعات عالمية» في 2009. الروائية الكرواتية أوغريشيتش (ولدت في زغرب 1949 من أم بلغارية وأب كرواتي) تعتبر الآن من كتّاب المنفى، حيث غادرت يوغوسلافيا السابقة في 1993 بسبب النزاعات الاثنية التي أخذت تفسخ العائلات و «تطهر» المناطق من طريق المجازر والتهجير واختارت اللجوء إلى هولندا حيث لا تزال تعيش هناك، تكتب دائماً وتدرّس أحياناً في الجامعات. وكانت أوغريشيتش لفتت النظر بقوة إليها في يوغسلافيا السابقة حين فازت عام 1988 بجائزة «نين» المعروفة عن مجال الرواية وهي بذلك كانت أول امرأة تحصل على هذه الجائزة منذ تأسيسها في 1954، وذلك عن روايتها «في فك الحياة» التي تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج رايكو غرليتش. تابعت في المنفى مسيرتها الروائية وصولاً إلى روايتها العاشرة «هجوم على الميني بار» (2010). أما روايتها «موطن الألم» فتتحدث عن مآسي يوغسلافيا بعد انهيارها في 1991 - 1992 وذلك من خلال استعادة روائية جميلة في المنفى (هولندا). فبطلة الرواية تانيا كرواتية من زغرب كانت تمثل يوغوسلافيا التيتوية بكل ما فيها من محاسن ومساوئ، حيث إنها كانت متزوجة بصربي (غوران) ولكن، مع اندلاع الحروب وانطلاق التطهير العرقي هنا وهناك كان على غوران الصربي أن يترك كرواتيا إلى ألمانيا أولاً ثم إلى هولندا، وبعد رحيل تانيا وغوران استولت على شقتهما في زغرب أسرة أحد ضباط الجيش الكرواتي الجديد. وفي أوقات الحروب الأهلية والانتقال إلى المنفى تصف تانيا كيف أن اللاجئين «يقبلون عادة أية وظيفة يستطيعون الحصول عليها، ولكنهم في المحصلة النهائية يرتقون إلى مستواهم»، وهو ما حصل مع تانيا وغوران وكان له ثمنه بالطبع. فقد كان غوران مختصاً في الرياضيات ولذلك وافق فوراً على أول عرض جاء من اليابان ليستقر هناك ويتزوج بيابانية فيما بعد. أما تانيا فقد وجدت وظيفة مناسبة لها في هولندا، مدرّسة في قسم الدراسات الصربوكرواتية في جامعة أمستردام. وهنا في هذا السياق يتصاعد الخط الدرامي للرواية عندما تعرّفنا إلى مصائر اللاجئين في يوغوسلافيا السابقة وتجربتها الحلوة والمرة في العمل معهم. فقد كان هذا القسم جاذباً للاجئين من يوغسلافيا السابقة لأنه يتيح لهم الحصول على الإقامة باعتبارهم من المسجلين للدراسة في الجامعة بينما هذا القسم هو في الأساس للطلاب الهولنديين المعنيين بدراسة اللغة الصربوكرواتية وآدابها، أي أنهم في قسم لن يتعلموا فيه لغتهم بل يتعلمون فيه لعبة جديدة هي استعادة وطنهم السابق (يوغوسلافيا) بطريقة مغايرة لما أصبح عليه في الواقع (جمهوريات في حالة نزاع وحروب تؤدي إلى مزيد من المآسي). أما المدرّسة تانيا فقد نشأت كغيرها على وجود لغة مشتركة في يوغسلافيا السابقة (الصربوكرواتية) التي يتحدث بها حوالى 70 في المئة من السكان ولكن مجريات الحروب ومبررات الانفصال فصلت بدورها هذه اللغة التي تحولت إلى ثلاث لغات رسمية في الجمهوريات الجديدة (اللغة الصربية واللغة الكرواتية واللغة البوسنوية). في اللعبة الروائية التي تخوضها تانيا مع طلابها من كل جمهوريات يوغوسلافيا السابقة تخوض معهم تجربة استعادة ذاكرة الوطن السابقة حيث تترك لكل واحد منهم أن يكتب في موضوع ما. وتكتشف تانيا مع هذه الاستعادة كم هناك من الحنين إلى الماضي في الوقت الذي مزقت فيه الجمهوريات الجديدة الآمال بالتطهير العرقي وتفقير المجتمعات وتشويه اللغات حتى جعلت المعاناة مستمرة لدى هؤلاء المهاجرين سواء بقوا حيث هم أو عادوا إلى أوطانهم الجديدة (كما أصبحت تسمى عوضاً عن وطنهم السابق المشترك) ولو لمجرد الزيارة. كانت تانيا من هؤلاء، ذهبت إلى زغرب للزيارة حيث كان عليها أن تستحصل على بطاقة هوية جديدة (كرواتية) بدلاً من بطاقة هويتها القديمة (اليوغسلافية) ولكنها تاهت في الشوارع بحثاً عن مكان الإدارة المخولة بمنح بطاقات الهوية لأن أسماء الشوارع قد تغيرت ومن يسأل عن أسماء الشوارع القديمة (من الماضي اليوغوسلافي) ينتهي به الأمر بالضياع حتى في مدينته، ولذلك عادت ثانية إلى هولندا دون «هوية» لتستقر هناك. هكذا، لا ترصد الرواية مآسي يوغسلافيا السابقة بل ترصد أيضاً مآسي المنفى (هولندا) كنموذج للمنفى الذي يلتقى فيه المهجرون من بلد واحد ليجدوا ما يربطهم في الخارج أكثر مما يفرقهم في الداخل. في مثل هذا المكان القريب البعيد (هولندا) تنتهي الرواية إلى أن مصائر اللاجئين ثلاثة لا رابع لها: إما أن يصبح اللاجئ أفضل (بالتكيف والعمل في مجاله)، وإما أن يصبح اللاجئ أسوأ (مع عدم التكيف والانخراط في عالم ما تحت الارض)، وإما مصير يوروش اليهودي الصربي في الرواية. رواية «موطن الألم» يجدها القارئ في العربية كأنها لا تتعلق فقط باليوغسلافيين الذين تشتتوا في المنافي بل بالعرب أيضاً الذين كانوا قد عرفوا بدورهم الحروب الأهلية والمنافي. فعشية انهيار يوغوسلافيا كانت الصحافة اليوغوسلافية تحذر من «لبننة» يوغوسلافيا، ولذلك فإن القارئ اللبناني في المنافي كما غيره أيضاً قد يجد نفسه أو بعض نفسه في هذه الرواية.