عندما بدأ الحراك الإصلاحي في الأردن كانت الأجهزة السياسية والإعلامية الرسمية تؤكد دائماً أن الحراك اقتصادي مطلبي وأن المعارضة السياسية تريد تسييس الأزمة وحرفها عن مسارها. لكن الحكومة اليوم تشارك المعارضة اللعبة ذاتها، وتتواطآن على تحويل الأزمة إلى لعبة سياسية وإعلامية مسلية! فيجرى حوار واسع اليوم حول قانون الانتخاب ولقاءات موسعة مع الاحزاب والشخصيات السياسية المعارضة والمؤيدة، وتتبادل الحكومة والحركة الإسلامية أدوار الحوار والمعارضة والتهدئة والتصعيد. وتسير التظاهرات في الشوارع بلا جدوى أو معنى، وترد عليها الأجهزة الأمنية والتجمعات الشعبية المؤيدة لها (البلطجية) بلا سبب، وفي أحيان كثيرة يتشكل مشهد سوريالي جدير بالتأمل: تتظاهر مجموعة من الشباب احتجاجاً على رفع أسعار الوقود، وترد مجموعات أخرى بالولاء والهتاف بحياة الملك، وتود لو أن آينشتاين ما زال على قيد الحياة لتفهم العلاقة بين الولاء للملك وخفض أسعار الوقود أو رفعها، ويتظاهر عاملون في شركة تنجيم أجنبية، لكن القضية تتحول بسرعة إلى أزمة نيابية إعلامية مناطقية لا يفهم أحد ما العلاقة بينها وبين مطالب العاملين في الشركة. وفي مراجعة برامج الخصخصة في العقدين الماضيين، بخاصة الشركات الكبرى مثل الفوسفات والاتصالات، أحيلت القضية على مجلس النواب لمناقشتها والتحقيق فيها، فتعاملوا معها بتهريب النصاب القانوني لجلسات البرلمان، في إشارة واضحة إلى عدم الجدية وعدم الرغبة الحقيقية في مواجهة الفساد، والاكتفاء بالمعالجة الإعلامية والاحتفالية. فعندما تصل الأمور إلى الخطوات العملية يهرب أبطال مكافحة الفساد! والمسألة لا تتوقف عند مجلس النواب، لكنها تكاد أن تكون سمة عامة حكومية وحزبية معارضة: مواجهة الفساد بالاحتفالات الإعلامية من دون ملاحظة ولو قدر يسير من الخطوات والإنجازات العملية والحقيقية. فلم نتمكن بعد، على رغم كل جهود الإصلاح والدعوات والمسيرات والمطالبات الجارية، من تطوير التشريعات لمصلحة المواطنين، وتطبيق التأمين الصحي والعدالة الضريبية والعدالة والشفافية في التنافس وتكافؤ الفرص. وفي الوقت الذي يتبرع النواب والمسؤولون في انتقاد الفساد، لم نلحظ خطوات معقولة وحقيقية وعملية يمكن تذكرها او الاعتداد بها لأجل العدالة، لم نلحظ أي تطور في التعليم، لم نسمع عن بناء مدارس جديدة، أو مختبرات مدرسية أنشئت، أو تطوير في محتوى التعليم يبني ثقافة مدنية ملائمة للإصلاح، تستوعب التقدم العالمي الجاري حولنا... لم نسمع بحراك إصلاحي يتوسع ويطور المراكز الصحية في المحافظات والبلدات، ويطور أداء المستشفيات الحكومية والتأمين الصحي، ولم نلحظ حراكاً إصلاحياً يحسن الرعاية الاجتماعية لتشمل جميع المحتاجين في الوطن، من كبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والمعوقين، والفقراء. لم يتحدث مسؤول عن تطوير وتفعيل صناديق الإسكان ومشاريعه وقروضها على النحو الذي يتيح للمواطنين الحصول على مساكن ملائمة، لم نسمع عن توسيع وتطوير للغابات والمراعي، ولا اهتمام يذكر بالزراعة والغذاء والماء والطاقة! (سوى مشروع لبناء مفاعل نووي، صحيح أننا عاجزون عن بناء مدرسة، ولكننا سنبني مفاعلاً نووياً) ولم تحدث تجمعات شعبية معقولة تجري عمليات استماع وحوار دائبة لحصر اولوياتها ومطالبها وتطلعاتها. والحال ان الأزمة التي تمر بها البلاد تعود إلى منتصف الثمانينات، وقد تُوجت بأزمة عام 1989. هي أزمة اقتصادية في الأساس، وجرى استيعابها سياسياً بانتخابات نيابية، لكن ذلك الحل على نجاعته لم يدم أكثر من سنة، ثم كان معظم الحلول والمبادرات التي قدمت تسلية سياسية، ومزيداً من الإفقار والتهميش للمجتمعات ومزيداً من النهب للموارد العامة (خصخصة) وما زالت الحكومات تتسلى بالحوار حول قانون الانتخاب... وتخض الماء! كان ثمة قطاع عام متجذر وراسخ تعتمد عليه المجتمعات، وتضمن ذلك سلبيات كثيرة بالطبع، ولكن لم تُقدم حلول ترشد الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمعات. ما جرى هو تدمير منهجي للقطاع العام، وإضعاف للمجتمعات ومؤسساتها المعبرة عنها، لأجل تمكين القطاع الخاص وازدهاره، هو الذي لم يتغوّل في بيئة من التنافس والعدالة، بل على أشلاء المجتمعات والقطاع العام. ولم تكن عمليات خصخصة ضمن بيئة تنافسية ويشارك فيها جميع المواطنين، لكنها عمليات منح وعطايا وتأميم لمصلحة فئة/ شلة محددة، وكانت النتيجة مزيداً من الفقر والتهميش. واليوم فإن قانون انتخابات عادلاً ومتقدماً لا يختلف في جوهره عن حرية إتاحة الكافيار للمواطنين ورفع القيود عن استيراده! الحل يبدأ بمعالجة الأزمة الحقيقية والتي هي اقتصادية بامتياز، وأتبعت مع الزمن وتراكم الأزمات بهشاشة اجتماعية وثقافية. الحل بإعادة توزيع الإنفاق بعدالة، فلا يمكن الحديث عن مشاركة سياسية من غير قدرة اقتصادية، وبعدالة ضريبية تجمع من الأغنياء وتوزع في أوجه صحيحة وعادلة، فما يحدث عندنا أن الضرائب يدفعها الفقراء ويستفيد منها الأغنياء... والحل بعدالة اجتماعية تتيح تنافساً عادلاً على الفرص في القطاع العام والقطاع الخاص والوظائف العليا والمناصب والمنح والبعثات والمعونات الدولية والخارجية، وارتقاء بالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. ولا بأس بعد ذلك أن يلتقي رئيس الحكومة الكتّاب الصحافيين وأعضاء لجنة الحوار وقادة المعارضة السياسية في فنادق البحر الميت، ويتحاوروا. لست ضد أولوية قانون الانتخاب في الإصلاح، لكن الجدل حول القانون أو الشغل به لا يجوز أن يكون ذريعة لامتناع الحكومة والمجتمعات والشركات عن تحمّل مسؤولياتها المنوطة بها. فتحسين الحياة هو ببساطة مدار الحضارات والحكومات والمجتمعات والأسواق.