بنظرة حنين، استرجع العم محمد ذاكر الأفندي أكبر المعمرين في المنطقة التاريخية أيام طفولته في حارة الشام، وفيها وجه ناظريه إلى مكان البازان (يعني البئر) التي قضى بجوارها فترة صباه الباكرة، وحكى ل «الحياة» كيف كان يتسابق مع أبناء الحي في إحدى ألعابهم المحببة تحت أضواء الفوانيس القديمة «التي لم يتبق منها إلا قطع على مناشيب على المباني -حسب تعبيره-. ويلتفت العم ذاكر مرتسماً على محياه التعجب من تحول الأيام، مشيراً بإصبعه إلى طريق السيارات بأنه كان طريقاً للإبل التي كان أهل البادية يرحلون عليها ما يلزمهم من حبوب وأقمشة وبن وهيل وتوابل حتى إن السوق سميت «سوق البدو». وبين حارتي اليمن والمظلوم، ترقد «عين فرج يسر» أو (البازان) وهي بئر قديمة أنشئت في عهد السلطان المملوكي قنصوة الغوري قبل خمسة قرون ( 910-915 ه) على عمق ثمانية أمتار وبمساحة ثمانية في12 متراً، وبها درج للنزول إليها، واستمرت تجود بالمياه طوال تلك الحقب ، تخلتها فترات انقطاع قصيرة، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى السيد «فرج يسر» أحد أثرياء جدة القدماء الذي عمد إلى ترميمها وإعادة فتحها عام 1270ه (1853م) بعد أن كانت قد طمرت، فأخذت اسمه ، لتستمر تجود بالمياه إلى العام 1340 (1921م). وبعد أن عادت للاختفاء من جديد في غياهب الزمن، استطاع الشيخ محمد حبيب الريس تحديد موقعها ووصف أجزائها لإدارة حماية المنطقة التاريخية لتظهر للحاضر من جديد أثراً تاريخياً يستدعي الاهتمام والمحافظة عليه، الأمر الذي لم يتأخر ، إذ بدأت عمليات الترميم لهذه العين التاريخية. وعن هذه البئر، أكد رئيس بلدية جدة التاريخية سامي نوار أن الاهتمام بالعين من ترميمها وتسويرها بألواح زجاجية ووضع التعريفية لها يمضي على قدم وساق، لافتاً إلى أنها ستبرز تاريخها وإن مستقبلها سيكون أمراً يسعد الزوار والسائحين والمهتمين بالآثار والتراث قريباً. وتطل مدرسة الفلاح التي تعتبر أقدم مدرسة في جدة للناظر شمال السوق في المنطقة التاريخية، ويقول عنها عصام يحيى القرشي أحد من عاش أجداده وآباؤه في الحي أنه سمع أن هذه المنطقة يعود تاريخها لأكثر من 500 عام وأكثر . وكان المهتمون والمحبون للتراث في السعودية قد نادوا للاهتمام بجدة التاريخية بعد أن زحف الزمن وعوامل الإهمال والنسيان إليها مما جعلها في خطر كبير من أن تفقد كأثر قديم وبارز ومهم في مدينة عصرية وسياحية مثل جدة. يذكر أن الهيئة العامة للسياحة والآثار أعلنت في منتصف العام الماضي إعادة تقديم ملف وسط جدة التاريخي للترشيح مجدداً ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، وتحديث الملف كموقع تراث ثقافي عالمي مع إعادة تحديد منطقة التسجيل ومنطقة الحماية المحيطة بها.