في التراث اليهودي القديم لم تكن هناك دولة واحدة ولا مملكة موحدة، وعلى الرغم من كل محاولات توحيد أبناء الديانة اليهودية قديماً في عقد ينظم قبائلهم المتناثرة، فقد فشلت كل جهود القضاة والحاخامات و»الرابات»، وكل الآباء المؤسسين للسلطة الدينية في توحيد ما افترض أنه الدين التوحيدي الأول؛ وها نحن في العصر الحديث، نعود لنرى دوافع انقسام جديد داخل الغيتو الكولونيالي الحديث فوق أرض فلسطين، حيث يصر «شرائعيو» التوراة على تطبيق شريعتهم البدائية الأولى، بغض النظر عن مستوى الحداثة التي نقلت إسرائيل يهودها إليها في سنوات عز الهيمنة الاستعمارية، وحاجة الدول الكولونيالية إلى عنصر وظيفي في المنطقة، يساعدها على فرض هيمنتها ونهبها لثروات البلاد المستعمرة، هذا الدور الذي لم يستطع توحيد كامل أبناء الغيتو فوق «أرض الميعاد» المزعومة، كان لا بد له من أن ينفجر على شكل «إكراه شريعي» يتجاوز الأشكال القديمة من صراعات المتدينين والعلمانيين، وها هو في بدايته. هكذا يصر ظلاميو الأصوليات على إعادة الخليقة إلى فطرتها البدائية (الأساطير المؤسسة)، من دون أن يغادروا مواقعهم في الحاضر، ما يصيبهم بفصام معمق يدخلهم في حالة وعي بائت أو وعي مفوت، يتصور أنه الحارس الأمين على «الشريعة»،. وفي إسرائيل اليوم، كما في تورا بورا أو في نيجيريا، وكما كان من قبل في المجاهل الأوروبية المعدمة، أيام الحملات الصليبية، تقوم قائمة الأصولية الدينية المتطرفة في هجومها على المجتمع الذي تعيش بين ظهرانيه، في محاولة لهندسته على شاكلة رؤاها الشوهاء؛ إزاء تحكم شرائعها في كل سلوكات الفرد والجماعة، اعتقاداً منها أن هذا هو صحيح «الشريعة» أو «الشرائع» التي حملتها جحافل الأصولية البدائية الأولى؛ حتى بلغ الانقسام الديني بين طائفتي اليهود الشرقيين والغربيين والمتدينين والعلمانيين في إسرائيل، حداً متقدماً من التطرف والصدام بين الحين والآخر، ما حدا بالبروفيسور يهوشع ليبوفيتش للقول «إن في إسرائيل اليوم شعبين يهوديين يعيشان في دولة واحدة»، حيث يمنع الزواج بين الطوائف، ويبلغ الإكراه الديني مستويات عليا، في ظل خلافات واسعة بين يهود متدينين و»يهود» غير متدينين، يختلفون في مدى التدين الأصولي المتطرف، وصراع هؤلاء مع يهود علمانيين يشكلون غالبية التجمع الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين. وما يجري اليوم في بيت شيمش، وصفه معلقون إسرائيليون بأنه رمز للصراع بين إسرائيل الدينية وإسرائيل العلمانية، في حين جاء تصعيد الصراع مؤخراً على خلفية إصرار المتطرفين من أصوليي التدين اليهودي الذين يطلق عليهم تسمية «الحريديم»؛ على الفصل بين النساء والرجال في الحافلات العامة وفي الشوارع والطرق المؤدية إلى الكُنُس. كما صعّد المتدينون تنكيلهم بنساء لا يرتدين لباساً محتشماً بنظرهم، أو لا يأتمرن بأوامرهم، وطالت الاعتداءات طفلة في الثامنة من عمرها كانت في طريقها إلى المدرسة وتعرضت للبصاق والشتائم، فعادت إلى البيت ورفضت الذهاب إلى المدرسة. ويعتبر «الحريديم» من أكثر الجماعات الدينية تطرفاً في إسرائيل، إذ يعيشون طبقاً للشريعة اليهودية، ويرفضون القوانين «العلمانية»، ويحلمون بتحقيق رؤى التوراة، ولهم مؤسساتهم الخدماتية والدينية. وكانت بداية تمرد هؤلاء في القدس، التي يشكلون ثلث سكانها، إذ سعوا -ولا يزالون- إلى فرض شرائع التوراة على المشهد الحياتي في المدينة، ونجحوا في فرض الفصل بين الرجال والنساء في الباصات من خلال صعود النساء من الباب الخلفي والجلوس في المقاعد الخلفية، حتى ظهرت قبل فترة وجيزة، فتاة تدعى «تانيا روزنبلوط» رفضت أن تغادر الكراسي الأمامية في أحد الباصات لتجلس في المقاعد الخلفية المخصصة للنساء، فتعرضت للعنف، فكانت هذه الحادثة الشرارة الأولى لحركة احتجاجية ضد الإكراه الديني. في حين يرى معلقون أن خضوع الأحزاب السياسية العلمانية للجماعات اليهودية المتطرفة دينياً، من أجل نيل دعمها لتشكيل الحكومة، يمنح الأخيرة متنفساً، ويشجعها على محاولاتها فرض رؤيتها. أخيراً يمكن الإشارة إلى تحذير صحيفة «هآرتس» الليبرالية في افتتاحية لها من الاستسلام أمام الجهات المتشددة «التي تحاول أن تفرض بالقوة قيمها الظلامية على الملأ، وتحويل إسرائيل إلى دولة ضعيفة متطرفة وظلامية، ودعت رئيس الحكومة ووزراءه والمجتمع المدني عموماً إلى التصدي لعنف التشدد الديني، ولجم خطر التدهور اللاديموقراطي». الأمر الذي يشارك فيه وزراء في هذه الحكومة التي تعتبر المستوطنين «طليعة بناء الدولة»، فهؤلاء كذلك لا يختلف سلوكهم الفاشي تحت عنوان «جباية الثمن» عن تطرف «الحريديم» الذين يشكل المستوطنون الأكثر تطرفاً، مكوناً أساسياً من نسيج الأصولية الدينية، المتداخلة في أهدافها وفي رؤاها التوراتية. فهل بدأ أصوليو التدين التوراتي حرب إكراههم الديني، في قلب مجتمع يتنكرون له كونه ليس مجتمعهم، وهو لا يطبق «شرائعهم»، وهو لذلك لم يبلغ سن الرشد بعد، ولا بد من تقويمه ولو بالعنف الكلامي والجسدي؟.