يشهد الصراع بين اليهود المتدينين المتزمتين (الحرديم) واليهود العلمانيين في إسرائيل تصعيداً منذ ايام على خلفية إصرار «الحرديم» على الفصل بين النساء والرجال في الحافلات العامة وفي الشوارع والطرق المؤدية إلى الكُنُس. وشهدت بلدة بيت شيمش القريبة من القدس مساء أمس، تظاهرة آلاف العلمانيين ضد التطرف الديني والعنف الذي يلجأ إليه «الحرديم» ضد النساء اللواتي لا ينصعن لأوامر عدم الاختلاط بالرجال، وضد اللافتات في الشوارع التي تدعو إلى إقصاء النساء عن الحيز العام تطبيقاً لنصوص التوراة. وجرت التظاهرة تحت حراسة مشددة من الشرطة في أعقاب تهديدات من جماعات دينية متطرفة بالاعتداء على المتظاهرين. وصعّد المتدينون تنكيلهم بنساء لا يرتدين لباساً محتشماً بنظرهم أو لا يأتمرن بأوامرهم، وطالت الاعتداءات طفلة في الثامنة من عمرها كانت في طريقها إلى المدرسة وتعرضت للبصاق والشتائم فعادت إلى البيت ورفضت الذهاب إلى المدرسة. وتحولت الطفلة، بعد بث تقرير متلفز عنها، إلى رمز للكفاح ضد الأصولية الدينية. ويعتبر «الحرديم» من أكثر الجماعات الدينية تطرفاً في إسرائيل، إذ يعيشون طبقاً للشريعة اليهودية، ويرفضون القوانين «العلمانية»، ويحلمون بتحقيق رؤى التوراة، ولهم مؤسساتهم الخدماتية والدينية، فيما يقودهم حاخاماتهم بجهاز تحكم من بعد. الحركات السياسية التي تمثل هذا التيار، التي أضحت منذ عقود (على خلفية حقيقة أن الزيادة الطبيعية في أوساط الحرديم هي الأعلى بين فئات المجتمع) ذات وزن سياسي في الحكومات المختلفة التي تخصص للمؤسسات الدينية موازنات ضخمة لقاء مشاركة الأحزاب الدينية في الائتلافات الحكومية. وكانت بداية تمرد «الحرديم» في القدس، التي يشكلون ثلث سكانها، إذ سعوا -ولا يزالون- إلى فرض شرائع التوراة على المشهد الحياتي في المدينة ونجحوا في فرض الفصل بين الرجال والنساء في الباصات من خلال صعود النساء من الباب الخلفي والجلوس في المقاعد الخلفية، حتى ظهرت قبل عشرة أيام، فتاة متدينة تدعى تانيا روزنبلوط ورفضت أن تغادر الكراسي الأمامية في أحد الباصات لتجلس في المقاعد الخلفية المخصصة للنساء، فتعرضت للعنف، ولم تكن تدري أن يُطلق رفضها الشرارة الأولى لحركة احتجاجية ضد الإكراه الديني. وجاء لافتاً أمس مسارعة الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز للوقوف الى جانب المحتجين على سلوك غلاة المتدينين، ودعوته الإسرائيليين إلى المشاركة في التظاهرة أمس وفي النشاطات الاحتجاجية ضد إقصاء النساء. كما جُندت وسائل الإعلام العلمانية إلى جانب قادة التظاهرات وكرست صفحاتها الأولى لتحذر من الخطر المحدق بالمجتمع الإسرائيلي «في حال تواصل الصمت على ممارسات المتطرفين». ويرى معلقون أن خنوع الأحزاب السياسية العلمانية للجماعات اليهودية المتطرفة دينياً، من أجل نيل دعمها لتشكيل الحكومة، يمنح الأخيرة متنفساً ويشجعها على محاولاتها فرض رؤيتها، لعلمها أن الأحزاب الكبرى ليست قادرة على تشكيل ائتلاف حكومي من دونها، وهي -الأحزاب الدينية- التي باتت تشكل منذ ثلاثة عقود من الزمن «بيضة القبان» في كل من الحكومات التي تم تشكيلها. ويستبعد معلقون أن تهدأ الحرب الدائرة بين العلمانيين والمتدينين طالما لا تجرؤ الأولى على مختلف مشاربها السياسية على تشكيل ائتلاف بينها، أي «حكومة وحدة وطنية علمانية» والاستغناء عن الأحزاب الدينية، ما من شأنه أن يقلص نفوذ المتدينين. وكانت صحيفة «هآرتس» الليبرالية حذرت في افتتاحية لها من الاستسلام أمام الجهات المتشددة «التي تحاول أن تفرض بالقوة قيمها الظلامية على الملأ، وتحويل إسرائيل إلى دولة ضعيفة متطرفة وظلامية». ودعت رئيس الحكومة ووزراءه والمجتمع المدني عموماً إلى التصدي لعنف التشدد الديني ولجم خطر التدهور اللاديموقراطي. وترى الأوساط الليبرالية أن التطرف الديني والقومي على السواء، المتزايد في السنوات الأخيرة بات يشكل خطراً إستراتيجياً على إسرائيل ويهدد علاقات الدولة العبرية بالغرب وتحديداً بالولايات المتحدة التي طالما بررت دعمها الكبير لحليفتها في الشرق الأوسط ب «القيم المشتركة التي تجمع بينها وبين الديموقراطية الوحيدة (...) في الشرق الأوسط». كما حذر عسكريون سابقون من أخطار التطرف الديني على الجيش «البقرة المقدسة» لدى الإسرائيليين واحتمال اتساع ظاهرة رفض الأوامر العسكرية بحجج دينية مختلفة، إذ سبق لجنود أن رفضوا إخلاء بؤر استيطانية عشوائية «لدوافع دينية–توراتية»، كما اتسعت في الشهور الأخيرة ظاهرة مقاطعة جنود متدينين احتفالات عسكرية بسبب مشاركة مجندات في الغناء، من دون رد فعل حاسم من قيادة الجيش.