يغلب على المجموعة القصصية التي أصدرها الكاتب الإماراتي سلطان العميمي تحت عنوان «الصفحة 79 من مذكراتي»، (دار كتّاب - الامارات) جوٌّ فانتازي يميل قليلاً الى النزعة الغرائبية الملطّفة والى السخرية السوداء والعبث. وهذا الجو بدا ملائماً جداً للأسلوب الذي اعتمده القاصّ في كتابة قصصه، التي تتراوح بين القصص القصيرة والقصيرة جداً، والتي يكاد بعضها يصبح اقرب الى قصيدة النثر في تجلياتها الاولى كما ظهرت لدى الجيل الرائد، ومنه اليوزيوس برتران وبودلير وسواهما. وقد تكون القصة التي حملت المجموعة اسمها عنواناً، خيرَ مثال على هذا النوع من النصوص الشعرية المشرعة على فضاء النثر، علاوة على قصة «تحولات»، التي يمكن قراءتها بصفتها قصيدة نثر، وكذلك قصة «صياد» وسواها. في قصة «تحولات» يكتب: «أخفت يديها في الغيم، فغرس يديه في الارض. تحوّلت الى وردة ، فصار ماء. نبتت، فجرى فيها. «القصص القصيرة جداً لا تزال محطَّ سجال نقدي، ولم يتوصل النقاد في العالم الى حصرها داخل «نوع» ثابت ونهائي، مثلها مثل «النص المفتوح» الذي تندرج في خانته أنواع عدة، قد تختلف في أحيان حتى التناقض. و «الإشكال» الذي يحيط بالقصة القصيرة جداً يتجلى هنا، في مجموعة العميمي، ولكن في إحدى صوره الجميلة، فهذه القصة لديه تحافظ على بنية سردية، ظاهرة أو خفية، عمادها الحدث السريع والعابر مثل لقطة فوتوغرافية، ناهيك عن الجو الفانتازي الذي يجمع بين هذه القصص القصيرة جداً، وهو ما نجح القاصُّ فيه اصلاً، فلم تبدُ هذه القصص القصيرة جداً غريبةً عن القصص العادية. وقد ابتعد القاصُّ عن القصة–الشذرة، التي باتت رائجة بدورها في عالم السرد القصصي. سلطان العميمي يسرد، مهما قصرت قصّته، وعنصر المفاجأة لا يغيب حتى عن أقصر القصص. تغريب كابوسي لا تُخفي قصص العميمي جميعاً نزعتها «الكابوسية» والحلمية المرتبطة اصلاً بجذورها الفانتازية والغرائبية، لكنه لا يمعن في «التغريب» الفنطاسي (أو الفانتاستيكي) ولا في السخرية الشديدة السوداوية التي تبناها السورياليون (يمكن مراجعة كتاب «أنطولوجيا السخرية السوداء» لأندريه بروتون)، ولا في «المفارقة» الكافكاوية (كافكا)، أو البورخيسية (بورخيس)... ولعل فرادة قصصه تكمن في مجاورتها هذه النزعات ومجاراتها إياها من غير ان تقع في خيوطها أو حبائلها، فتغدو كأنها تقلّدها أو تحاكيها محاكاة تامة. الكواليس والأحلام والهواجس والفانتسمات ولعبة الظل... تحتل كلها قصص العميمي، لكنها تحافظ على شفافيتها، أو لأقُلْ شعريتها وألفتها الممكنة، فلا تتوغل في البعد الميتافيزيقي أو الفلسفي، ولا في البعد الباطني (إيزوتريك) والسحري، كما لدى الكاتب الفرنسي جيرار دو نيرفال مثلاً. الألفة لا تغادر قصص العميمي في الغالب، ولعلها هي التي تلطف عبثية قصصه وسخريتها السوداء، أو «الصفراء» كما يحلو لبعض النقاد القول. في قصة «ركض بعيداً» يعيش الراوي حالاً من الصراع (المتوهم) مع ظله، الذي لم يعد يروق له أن يصحبه على رغم العشرة الطويلة. ينفصل ظله «المجنون» عنه ويروح يتحرك كما يشاء بعيداً من صاحبه. ومرة، بينما كان الراوي يجتاز شارعاً، صدمته سيارة ورمته بعيداً. كان ملقى على الأرض، محطماً، الدم ينزف من وجهه وفمه، حاول تحريك يده فلم يستطع، رفع رأسه فلمح ظلّه جالساً إلى جانبه ثم نهض الظل وراح يركض حتى اختفى. إنها لعبة «الظل»، أو بالأحرى لعبة «الظلال»، التي «لا يخرج منها أحد منتصراً»، كما يقول مالارميه. أما في قصة «السنطوانة»، فيوظف العميمي تقنية «المفارقة» التي تسم معظم القصص الغرائبية. جاسم، الذي فقد ثروة أبيه نتيجة مؤامرة حاكها ثلاثة أشخاص من القرية، يقصد بيت «أبو شافي» الذي يسمى ب «السنطوانة»، طالباً منه ان يعلّمه القراءة والكتابة. ولما كان «أبو شافي» يعمل سابقاً حفّار قبور، يخبره قصة الرجل الذي مات في قريته، والذي عندما أرادوا دفنه لم يجدوا نعشاً يتسع لجثته الطويلة... مما اضطرهم الى حمله على النعش ورجلاه متدليتان من النعش. هذا المشهد سيعاود جاسم نفسه، وسيكون الميت الذي تتدلى رجلاه خارج النعش «أبو شافي» نفسه، الذي كان أخبره تلك القصة. وكان «أبو شافي» وقع ضحية الأشخاص الأشرار الثلاثة الذين كان جاسم يخشاهم ويبصرهم في أحلامه يسرقونه ويعتدون عليه، فيصدّق أحلامه ويتأثر بها. مفارقات قصصية في قصة «كلب»، يعرب الفتى (البطل) عن رغبته في أن يصبح كلباً، رغبة منه في الحصول على رعاية أمه واهتمامها. وكان في أحيان يبصر نفسه كلباً في الحلم، أو يبصر أمه وقد أنجبت له شقيقاً على هيئة كلب، أو يرى نفسه أيضاً يبكي بحرقة وقد نما له ذيل كلب، أو يبصر نفسه يأكل من طعام الكلاب الذي كانت تضعه له أمه... إنها الحالة «الكلبية»، الكابوسية التي استوحاها كتّاب كثر، وفي مقدمهم اوزفالدو دراغون صاحب مسرحية «حكاية الرجل الذي أصبح كلباً»... تتواصل لعبة «المفارقة» في قصص عدة، ومنها «قبور»، التي يفقد فيها حارس المقبرة عرضاً «ذهبياً» كان لينقذه من بؤسه لو وافق عليه، ويقضي بنبش القبور بحثاً عن كنز مطمور في المقبرة، وإذا به ينتهي مشرّداً بعد ان يبلّغه مأمور البلدية القرار الرسمي بهدم المقبرة وشقّ طريق محلّها. وفي قصة «ثأر» يلتبس الأمر على «البطل» الذي يدعى الهديفي، فلا يعلم إن كان ذبح قاتل أبيه ثأراً له أم ذبح خروفاً، كما يتهيّأ لزوجته. والجميل هنا ان الخاتمة تظل غامضة. وفي قصة «صياد» القصيرة جداً تبرز «مفارقة» شبه حلمية أو شعرية: كانت الفتاة تتقمص في طفولتها شخصية العصفورة والفتى شخصية الصّياد، وبعد فراق طويل وجد نفسه يسقط كطائر مذبوح امام نظرتها. وتتجلى الحال الكابوسية في قصة «الاختيار» أجمل تجلياتها، عندما تتماهى شفرة الإعدام في مخيلة «البطل» بشفرة الحلاقة. وفي قصة «هي والذئب»، تأكل ليلى الذئب، على خلاف القصة الشائعة. وفي قصة «غرفة انتظار» تلوح ملامح «القرين»، هذه الشخصية المرآوية التي تعكس صورة أخرى، حلمية أو متوهّمة، للأنا أو الشخص الكائن أو الذات. وكان بورخيس من أمهر القاصّين الذين استوحوا لعبة «القرين» وتعمقوا فيها. في قصة العميمي الجميلة هذه، يأخذ «القرين» طابع الانفصام النفسي، فالراوي الجالس في قاعة الانتظار في احد المستشفيات النفسانية يخاطب «قرينه» في المرآة وكأنه شخص آخر، ولا يعلم إلا عندما تناديه الممرضة انه يجلس امام مرآة تحتل الجدار. في قصة «للذكرى يا صديقي»، يحل الكاتب في ثوب الراوي ليكتب نصاً «بارودياً» ساخراً لا يتمالك فيه عن الهجاء الذاتي. لا تتعدى صفحات مجموعة سلطان العميمي القصصية المئة وثلاثين، لكنها صفحات حافلة بالشخصيات الطريفة و «الحكايات» الصغيرة البديعة والأحوال والشؤون الصغيرة والتفاصيل. قصص كتبها العميمي برهافة وشاعرية، مكثفاً لغته ومختصراً السرد قدر الإمكان، حتى ليمكن وصف هذه القصص ب «اللوحات» و «اللقطات» المحفوفة بالفانتازيا والغرائبية الأليفة. إنها قصص تلتقي فيها الأحلام والكوابيس، الوقائع والأوهام، وتخفي في صميمها مأساة الإنسان المعاصر الذي يزيده العصر ضياعاً بين كونه إنساناً وصورة مستنسخة عن إنسان.