يقيم الفنان الصيني - الباريسي وانغ يان شينغ معرضه الضخم الراهن في غاليري زاهية ومعروفة هي «لوي كاري» القائمة في الحي الموازي للشانزليزيه، ويستمر العرض إلى نهاية شهر كانون الثاني (يناير) 2012. هي لوحات تجريدية غنائية يغلب على قياساتها التربيعات العملاقة تصل أبعادها إلى مترين أو إلى متر ونصف المتر. تعانق صالات الغاليري حشداً كبيراً من اللوحات التجريدية التربيعية، يعتبر بعض النقاد أنها تجريدات ذات أسلوب لا شكلي أكثر منه غنائي، المهم أن فناننا الذي أصبح معروفاً الآن في عمر مبكر (هو في الخمسين) يحاول على هدى الجيل الذي سبقه من الصينيين المقيمين في باريس بخاصة المعلم زاووكي ثم الفنان تهشون، أن يقيم توليفاً مشابهاً بين تجريد مدرسة باريس وتقاليد التصوير الصيني الطاوي، لدرجة أن لمعان لوحته بالإكريليك يوحي بأنه منجز بالطلاء التقليدي الصيني (اللاك). لكن خياله التجريدي يتجاوز هذا المستوى التقني إلى الروحي، يقول هو نفسه في أكثر من مناسبة: «أحب أن تحرّض عوالم لوحاتي المتفرج على تأمل مصير العالم، وما آل إليه من تصنّع وصناعة ومواد غير نبيلة». وحتى يصل يان شينغ إلى صبوته في الارتقاء الروحي «والوثبة الحية» المعراجية في تسامي الضوء والنور والألوان (التي يقول عنها إنها تقع في مهب الريح) أقول من أجل كل هذا فهو يستعيد الفراغ الكوني، ضمن المفهوم الروحي الطاوي وتصوره لبزوغ الكون من نطفة الظلمة تماماً كما هو في مفهوم الذوق العرفاني الصوفي في شرقنا. يصوّر شينغ على سواد ليل فلكي مديد فتعبر فرشاته العاصفة على السموات والأجرام والنيازك والشهب والأفلاك والمجرات بطريقة «نسبية»، تراوح بين العالم الكبيري التلسكوبي الفلكي (الماكروكوزم) والعالم الصغيري المجهري (الميكروكوزم). كل ما نراه ممتد حتى اللانهاية في البعد والصغر في القُرب واللانهاية، في القدم واللمسة اللحظية العابرة تماماً كما يذكر الشاعر العربي: «وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر». وهنا نعبر من الفلك الكوني اللامتناهي إلى الأعماق الإنسانية الباطنة والتي تنبض بالروح والنفس والقلب والحدس. فإذا ما عدنا إلى المقاربة مع الطاوية وجدنا أن الفراغ يمثل النفس القدسي بحيث لا يجب إرهاقه بالتفاصيل، وهنا تبدو الضرورة الروحية في اختزال اللون والشكل، لذلك الرغبة في التجريد الفلكي في هذا المقام تتطابق مع صبوة الاختزال والتقشف كما هي بلاغة الشاعر النفّري: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة». يقوم يان شينغ مثل الجيل الذي قبله بالتوفيق الفني المستحيل بين تقاليد الشرق والغرب. بما أن هذا الفعل قصدي أقرب إلى النظّري منه إلى المعاش فإن شيئاً من التهجين يدفع ثمنه فناننا، على رغم أن هذا لا يخفي عمقه أو موهبته الخطية واللونية، ونخبوية خطابه البصري، وإذا قارنا اليوم الفن الصيني المعاصر بصفة عامة بذاكرة الطاوية ما قبل القرن السابع عشر (مثل روليهات ولوحات بكين في عهد عائلة مينغ أوسونغ التي يمتد حرير منظرها الفلسفي حتى ثلاثين متراً) لوجدنا أن هذه المناظر الروحية وطقوسها العريقة التي ترجع حتى القرن الثاني الميلادي قد انقلبت مفاهيمها، فالمصور كان يعيش الشهيق والزفير والنفس القدسي في حضن الكون وذرى الجبال، ويصعد مع واقعيتها المحسوسة حتى أعلى القبة السماوية، في حين أن أمثلة شينغ يصورون مشهداً فلكياً ملفّقاً بالتجريد وبلا نهائية المكان والزمان، لنتخيل حجم التهجين هذا عندما ينقل عن أسلوبه بعض التجريديين العرب المعاصرين. إذا عدنا إلى المعرض البالغ العناية والأناقة وجدناه محتشداً بالنقاط الحمراء، ما يثبت أن مستوى التسويق عال، يصل مع الإنتاج إلى الجملة أو الكثرة التي يتسم بها الازدهار الفني الاقتصادي الصيني الراهن، فأصحاب المجموعات من الأغنياء الجدد يزداد عددهم بتكاثر انفجاري ويتزاحمون على اقتناء هذه الأسماء الصينية بخاصة التي ترعرع اسمها وشهرتها في العواصم الأوروبية ونيويورك. فالانتعاش الاقتصادي على رغم سيطرته على المزادات وصالات العرض لا يقود بالضرورة إلى انتعاش فني.