يرسم المنفى ملامحه على مساحات التشكيلية العراقية نوال السعدون التي ترسم البكاء، وتبكي عليه، قبل أن تجف ألوانه. وتصوّر حزنها على البشر المتعبين في الشوارع. رسمت السعدون أخيراً هذا التعب على الأبواب والشبابيك، جامعة أشلاء بيوت قديمة لترسم عليها حياتها، وحيوات الآخرين. وهي بذلك تدق أبواباً بعيدة في وطن غادرته مجبرة، قبل ربع قرن أو أكثر. تعلّق السعدون غربتها على جدران مرسمها الذي يتوسط حي القيمرية في دمشق القديمة، وهو أشبه بمعرض جماعي للفنانة وحدها، إذ غطّت جدرانه لوحات متباعدة في التقنية والأسلوب والتاريخ. هو محاولة للحفاظ على علاقة طازجة مع ذاكرتها، والعيش مع قصص حياتها وأشخاصها الذين تختزلهم اللوحات. الدخول إلى المرسم، بمثابة رحلة في عالم حزن ملوّن. إذ ينتصب قبر جماعي على الجدار، فيه أحرار دفنهم الظلم منذ عقود، علّقتهم في لوحة تكاد تكون من ثقوب الأرض في العراق، قبر جماعي يقف البشر فيه على رغم موتهم. رمادي اللون، ومكعب الشكل، فيه البشر أنقياء من كل لون. على الجدار المجاور، أوقفت بومة، كرمز لطرف شؤم واحد، يتحكم بالعراق ويكبّل أهله. تعود اللوحة إلى مشروع تخرجها في أكاديمية الفنون الجميلة في بوخارست عام 1980. ضم المشروع مجموعة من الأعمال الغرافيكية المحمّلة رسائل سياسية منصبّة على الهم العراقي آنذاك، كالمجازر، والاعتقالات السياسية، وتكبيل الحريات. ويمكن القول أن البشر سكنوا كل أعمال نوال السعدون الغرافيكية. يظهرون في اللوحات حتى عندما تتجه إلى أقصى التجريد، فتستعيض عن الأجساد بتفاصيل منها، وأشياء تدل عليها. تحوم في الغرفة الأخرى عوالم وتجارب جديدة، عاشتها الفنانة ورسمتها. لوحات تجريدية وتعبيرية تسعى الى أنسنة اللوحة، أو خلق بشر على هيئة لوحات. فالتجريد بدأ بالتسلل إلى عالم نوال السعدون في الدنمارك، حتى سيطر عليه إلى الآن، لما للمكان ولتجارب فنانيه وعوالمهم من أثر عليها، ولسعيها المستمر إلى استعادة تفاصيل من الفن الإسلامي الذي يحتل مساحة كبيرة من ذاكرتها البصرية المكتسبة منذ وطنها الأم. حاولت السعدون أن تكون في تجريدها كطفلة تعبث باللوحة، وترسم بفرح، على رغم إتقانها الكبير لتمجيد الألم. لوحات استعادة الطفولة من الكولاج، رسمتها بداية الألفية الثانية، وعرضتها في غاليري «شمبلا» في كوبنهاغن، وفي مركز المتاحف في مدينة أوهوس الدنماركية، وفي الكثير من المدن الأخرى. تتميز أعمال الكولاج هذه بالانسجام الكبير بين المواد فيها، من قماش وألوان. قرب لوحات الكولاج البشرية، يقف بشر آخرون، لكنهم من السيراميك، بترت السعدون أطرافهم، وحرقتهم حتى تشوهت ملامحهم، لتغدو منحوتات تعبيرية تشابه ما عاشته المنطقة من حروب ودمار. على الجدار الآخر، عالم آخر، لكنه أكثر جرأة وتقدماً في رحلتها. منحت اللون الأبيض فيه كل اللوحة، وفتحت مغلفات لرسائل سود، وبيض، تخرج منها أيدي الذي غادروا، وشرايين سود قصيرة، في عالم باهت يسوده الفراغ الأبيض الذي يسيطر على المتلقي، ويصيبه بالتعب أمام اللوحات. وما هذه المجموعة إلا مشاريع قبور علّقتها نوال السعدون على هيئة لوحات. تنتهي بلوحة تنتمي إليها، ولا تنتمي إليها. إذ استبدلت بالرسائل فيها حذاء لشاب عراقي لجأ إلى دمشق، فأتعبته، وأتعبت حذاءه إلى درجة التمزّق الذي يظهر عليها في اللوحة. تتناثر أيضاً على أرض مرسمها الذي بدأ يعيش تغيراً في ملامح جدرانه «بورتريهات» لأشخاص لا يمكن التعرف إليهم، لأن أجزاء من أجسادهم، كالعين أو الرأس، هي كل ما يدل على وجودهم في اللوحة. عيون تتوسط اللوحات، وكأن شخصاً يقف خلف اللوحة، تشعر بوجوده، يراقب من يقف أمامه، الأمر الذي يزيد الإحساس بالأرواح التي تسكن اللوحات. دوائر اللانهاية تتخلل العناصر في اللوحات، من خلال خيوط قماش تتسلل إلى جسد اللوحات منتهية بدوائر اللانهاية تلك. لم تغير نوال السعدون من تقنياتها في خلق اللوحات، ولا يزال تعاملها مع الكتلة والفراغ ينتصر دوماً في الأعمال، أما تعاملها مع الألوان فيُظهر رغبة في العودة إليها بعد تقشف طويل. ما الحزن والموت اللذان يسكنان لوحاتها إلا حصيلة عقود من النفي، والحنين إلى وطن تعيش كل تفاصيل بعده. تعتقد أن لوحاتها تحمل الكثير من الفرح، لفرط الطفولة التي تعيشها أثناء ممارسة الرسم، لكن الحقيقة أن تجربتها التشكيلية أشد من العراق حزناً. القلق الذي تعيشه سورية الآن، دفع السعدون لتربية حمامات في مرسمها، بحثاً عن سلام غادرها منذ ربع قرن، أو أكثر.