ليست المرة الأولى التي تشهد فيها عاصمة فرنسا وبالذات صالات القصر الكبير معرضاً شمولياً بهذه البانورامية التاريخية عن سياق الفن الصيني، هو الذي وصلت ذروة تقاليد تصاويره على رولوهات الحرير بين القرن الحادي عشر والسادس عشر، على رغم أنه ابتدأ مثل الفن الرافدي والفن الفرعوني منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام. يختص معرض اليوم للمرة الاولى في أوروبا بتقاليد التصوير الروحي « الطاوي» في المناظر الكونية المصورة عن الطبيعة الممتدة عشرات الأمتار أفقياً أو عمودياً وفق قياس الرولو وهي اللفافة الورقية المصنوعة من الحرير، وذلك حتى تمتص بتقنية روحية عالية الأحبار والألوان المائية. والطاوية مثل ردائفها الروحية الكونفوشيوسية والبوذية لا تمثل عقيدة دينية بل تكشف تدريباً روحياً مديداً وتصوراً فكرياً عن قدسية العالم الطبيعي والفلكي وانتظامه ضمن ثنائية « الفراغ والامتلاء» باعتبار أن الأول أشد أبدية من الثاني، وباعتبار أن الفراغ أشد امتلاءً نورانياً وروحياً من الامتلاء وباعتبار أن الفراغ العام سواء في الأصل الجغرافي الرحب للمنظر الطبيعي أم في تأويله المرسوم ما هو إلا رئة قدسية. لذلك لا يجب خنق الفراغ وحشده بالتفاصيل. هو ما يفسر أسباب قزمية العناصر البشرية وسواها داخل رحاب وامتدادات رئة الكون الفراغي. يبدأ الفنان الطاوي رحلته وعزلته وتوحده مع الطبيعة الكونية عندما يحمل عدة الرسم من ورق حرير وألوان مائية وحبر صيني والفراشي متعددة القياس والقدرة على الامتصاص والتلقيح الشبق صباغياً للورق. تشتمل هذه العدة المحمولة على الظهر على مرآة تعكس الجانب المخفي من المنظر، مما يدل على سعيه الحثيث لأن يكون متعدد الوجود والمناظير والإحاطة البصرية. يتلوى مجاهداً في مسالك وعرة تشق ذرى الجبال المتباعدة، يعيش تجربة الضباب والفراغ العائم في القبة السماوية، يحاول عند تصوير نزهته المعراجيه أن يختزل شكل العناصر وعددها حتى لا يزحم النفس ويخنقه، فقد تُغني شجرة غيطان ويغني غصن عن جماهير الأوراق والزهور، وقد يزهد مقتنعاً بطائر فريد عن أسراب الطيور المحتشدة في الغيم والسحاب أو زرقة الأفق، يتأمل ساعات ويرسم بسرعة انبثاقية حدسية كشفية عميقة الانفعال التوحدي. تتحول سلسلة الجبال إلى كواليس من الذرى الشبحية المتقدمة والمتأخرة والمقصوصة من دون تفاصيل وكأنها في مسرح «خيال ظل» ميتافيزيقي متحرر من الجاذبية الأرضية. يبحث الفنان الطاوي عن كل ما هو خالد سرمدي مثل ديمومة النور، لذلك يحدو أغلبهم قناعة « شامانية» بأن الصخرة والجبل لا يعرفان الشيخوخة بل يمثلان بثوراتهما البركانية الشباب المتجدد. يتحد في الطاوية الشعر بالرسم ضمن توأمية سمعية بصرية.هو ما شرحه الرسام الطاوي المعروف «شيتاو» حين كتب: «أخاطب يدي فتسمعني من خلال عيني». يبدأ الرسام بكتابة قصيدته العمودية منتبذاً مساحة قصية من هول الفراغ ثم يبدأ بتشخيص « دياغرام « حروفها وجملها فتنقلب الغيوم إلى أنفاس والسواقي ومجاري الانهار والشلالات إلى نظير الدم الذي يسري في الشرايين والأوردة، وتنقلب الصخور إلى عظام والجذوع إلى عضلات من لحم ودم وهكذا. مناظر ميتافيزيقية تتحد فيها الكهوف الصخرية بالمعابد والمنازل، ويتراشح ويشع النور القدسي من أدق ذرات المنظر، وبألوان رهيفة نكاد نسمع حفيف أوراقها، وتغريد طيورها، ودبيب هوامها، وخرير سواقيها، وصخب شلالاتها. كانت هضبة «ليوفو» مثلاً مرتعاً جغرافياً لمناظر معلمي الطاوية وكانت تشتمل رمزياً على 36 كهفاً. تعيدنا هذه الطقوس إلى قواعد الرسم الطاوي التي أسسها كتاب «الطريق المستقيم» في القرن السادس قبل الميلاد مؤكداً على سرمدية ثنائية الوجود واللاوجود. ثم ترسخت هذه التقاليد مع لاوتسو ما بين القرنين السادس والثاني قبل الميلاد. لكن فنون الصين منيت بنكبة عند تدمير المعابد خلال الثورة الثقافية الماوية بعد عام 1955.