بعض الناس يكره كل من يقول: أنا، أنا... وأسمع: أعوذ بالله من كلمة أنا. أنا عندي مشكلة مع «نحن». منذ ثورات الغضب العربية، ونجاحها في بعض البلدان، واستمرارها في بلدان أخرى، وأنا أسمع: نحن قررنا، أو: نحن نقبل أو لا نقبل، أو نحن نرفض، وهكذا. القاسم المشترك بين القائلين أن كلا منهم نصب نفسه ناطقاً باسم الثورة، أو مالكها الوحيد، من دون أن يكون الثوار اختاروه للحديث باسمهم، ومن دون أن نرى صك ملكية الثورة الذي يزعم أنه في جيبه. هل يعرف الواحد من هؤلاء رأي الناس فيه؟ هو لو عرف ربما ما عاد يكلّم نفسه، ولكن إلى أن يحدث هذا فهو سيظل يتحدث بصفة الجمع نيابة عن الجميع. جمعني مجلس مع واحد يتكلم بصيغة الجمع كأنه ملك بريطانيا، وهو يشرح لنا كيف قام بالثورة، وماذا يريد أن تحقق الثورة، ودورنا في العهد الجديد. وأغلقت عيني وحلمت بأنني خرجت لأعود بعد ساعة وهو لا يزال يتكلم. وسألني أين كنت، وقلت له إنني ذهبت لقص شعري. وسألني لماذا لم أفعل ذلك قبل جلستنا، وقلت: لأن شعري طال وأنت تتحدث. لا أعتقد أنني من الشجاعة أن أترجم حلمي إلى مواجهة مع «الأستاذ نحن»، لذلك اكتفي بسماعه يعرض المشكلات ويقترح الحلول، وأنا أدرك أن المشكلات العربية تتفاقم عندما نحاول حلها، من قضية فلسطين إلى ثورات الشباب، ويستبد بي القلق فألجأ إلى المنطق وأقول لنفسي: إذا كنت تستطيع حل المشكلة فلا سبب للقلق. وإذا كنت لا تستطيع حلها فالقلق لا يفيد. مع ذلك أنا قلق بطبيعتي وأسمع الذين سرقوا الثورات من أصحابها وأخشى أن يجدوا من يصدقهم، كما حدث في الانتخابات المصرية. أفهم أن شاباً من قادة الثورة قد يفسده النجاح، غير أنني أرى واحداً من لصوص الثورات يتحدث وقد أفسده الفشل، فهو لم ينجح في شيء في حياته ويحاول الآن أن يسرق نجاح الآخرين. وأسمع الأستاذ نفسه مرة بعد مرة وهو يروي كيف صنع الثورة ونفذها، والرواية تختلف بين يوم وآخر، فهو لا يعرف المثل «إذا كنت كذوباً فكن ذكوراً». ويسرح بي الفكر إلى أيام إقامتي في أميركا حيث يُسأل المتهم أن يقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. وأتصور لو أن الأستاذ واجه مثل هذا الطلب لأعطى ثلاثة ردود مختلفة. أذكر زميلاً كان لا يبدأ مقالا له إلا ويقول: إنني أرى... وحاولت أن اقنعه بأن يحاول أن يرى مواقف الآخرين، وعشت لأترحم عليه فهو يكتفي بنفسه، أما «الأستاذ نحن»، فهو يتحدث بالأصالة عن نفسه والنيابة عن الأمة كلها. بالمناسبة، في الصحافة على الطريقة الغربية يقولون إن أفضل رأي هو الذي لا يبدو كرأي، بمعنى أن الكاتب يسربه ضمن مقاله ليبدو كمعلومة، أو كشيء يشترك فيه كثيرون، لا مجرد كاتب واحد. يا ناس، لا أحد منا أينشتاين ولكن حتى هذا العبقري لا يستطيع أن يطلع على الناس برأي جديد كل يوم، لذلك تعلمنا في مدرسة الصحافة أن نهتم بمصادر الأخبار، أو صانعيها، وان ننقل عنهم لدعم الآراء المرافقة. غير أن النموذج العربي هو ذلك الذي يجلس في «قهوة النشاط» ليدردش مع أصدقائه، ثم يخرج ليدير ثورة ويوزع الأدوار فيها على أمثاله. هذه الأيام، ومع خوفي على الثورات العربية ومنها، لا أسمع رجلاً يقول: نحن نريد، أو نحن نرفض، حتى أسأله من أنتم؟ وعادة ما يكون رد الفعل مزيجاً من الاستغراب والاستهجان لجهلي بمن يمثل الأستاذ وما يمثل. وقد ابتليت أخيراً بنموذج متطور من الأستاذ نحن على شكل رجل يلتصق بالمستمع وهو يتحدث، ولعله يعتقد نفسه أحمد عز و«يتفتف»، وأفكر أن أهديه شيئاً وهو بحاجة إليه فعلاً، ولكن كيف تحمل إلى رجل «دوش» فرائحته أيضاً تصيب الجالس قربه بدوار بحر. أدرك أنني أكتب ساخراً عن موضوع مهم إلا أنني لا أملك سوى السخرية، وقد قررت أن أسمي واحداً لا يتكلم إلا باسم الأمة الأستاذ تاريخ لأنه يعيد نفسه. هو من الإزعاج أنه يستطيع أن يصيب الأسبرين بصداع، فأترحم على كل من يقول: أنا... [email protected]