الاثنين 29/6/2009: البشرة السوداء متابعة وفاة مايكل جاكسون جددت بالنسبة إليّ أجواء تحرير العبيد في الولاياتالمتحدة، حين استغرق هذا الأمر سنوات طويلة بعد القانون الفيديرالي الذي أعلن التحرير، وتطلب جهداً من الطرفين، الأحرار والعبيد الذين صاروا أحراراً. كانت المسألة وتبقى ثقافية اقتصادية، وأبعد من قوانين فيديرالية أو في كل ولاية على حدة. ولأن العبيد سود البشرة من أصول أفريقية، جرى ابتكار التعبير «أميركي أفريقي» بدل «أسوَد». وعزز الأميركيون الأفارقة حضورهم بالدرجة الأولى عبر الإبداع الفني والارتقاء الثقافي والأكاديمي، فلا يستطيع أحد انكار بصماتهم في العزف والغناء والرقص، وتميزت بهم هذه الفنون عن مثيلاتها في أوروبا، واكتسب الإيقاع الأميركي بواسطتهم حرارة حتى في صقيع نيويورك. لم يكن الحضور الفني كافياً لإرضاء مايكل جاكسون، هو الذي يعتبر، من رموزه الأميركية العالمية. ويبدو انه لم يقتنع بجمالية اللون الأسود التي تغنى بها شعراء وغناها كثيرون على ايقاعات واثقة ومؤثرة، كما لم يتحمس لنزعة الفخر بالبشرة السوداء، من باب العنصرية المضادة. لقد أخضع الفنان الشاب بشرته لعمليات فيزيائية ولمؤثرات كيماوية ذهبت بها الى لون غير محدد، لون اللالون، فاضطر الى اخفاء يديه وجزء من وجهه، ولو استطاع لعزل نفسه عن الناس، وقد فعل ذلك في سنواته الأخيرة. ماذا لو انتخب أوباما رئيساً للولايات المتحدة قبل أن يعبث جاكسون بسواد بشرته؟ هل كان الأمر أقنعه بأن السواد لون انساني وليس أقلّ شأناً من الأبيض والحنطي والأصفر وما سوى ذلك من ألوان الخلاسيين؟ الفنان الكبير يبقى عرضة لأوهام صغيرة لا تقنع أحداًَ سواه. الثلثاء 30/6/2009: وحدنا في أزمة ما بعد انتخابات الرئاسة الإيرانية اكتشفنا ندرة المعرفة العربية بالجار الإيراني، بل، في الأصح، غيابها، ولا نعني غياب الأشخاص فقط انما، خصوصاً، المؤسسات. وأثناء حروب العراق مع ايران وتعرضه للغزو الأميركي كنا اكتشفنا ان العرب لا يعرفون العراق جيداً ولم تكن كافية كتب التراث التي انقضى زمنها ونشرات وزارات الإعلام وأدبيات الأحزاب التي تنقل آراء منحازة أكثر مما تقدم معلومات. وكشف الغزو الأميركي، في ما كشف، مقدار جهلنا نحن العرب لبلد عربي رئيسي، لمجتمع هذا البلد ولغاته وأقوامه وملله ونحله. من الآن، وبلا تأجيل ولا أعذار، نحن العرب مدعوون لتأسيس مراكز أبحاث تستحق هذا الاسم، تعنى بالبلدان العربية ذات المساحات الجغرافية والاجتماعية الكبيرة، وبجيران العرب والدول الاقليمية المؤثرة، مثل تركيا وايران وباكستان والهند، ودول حوض النيل، ومجتمعات الصحراء الأفريقية المجاورة لليبيا وتونس والجزائر. مراكز أبحاث مثل هذه ضرورية لوضع أهل الحكم والنخبة في صورة ما يؤثر في حاضرنا ومصيرنا، لئلا نفاجأ فلا ندري من أين يأتينا الشر أو يأتينا الخير. الأربعاء 1/7/2009: الطبيعة لغتنا تحضيراً لاحتفال خاص بذكرى الشاعر اللبناني جورج يمين، كتبت اليوم هذه الشهادة، مع شهادات كتاب آخرين، عن العلاقة بين الكتابة والطبيعة كحصيلة تجربة: في الطبيعة تتحقق اللغة وتتجسد، واللغة من دون الطبيعة تجريد وفضاء بلا قوام. والعربية في لبنان لغتنا نحن، القليلة التفاصيل، الجانحة الى التكثيف، المتخففة من ترهلات السرد. هي لغة الذين أتوا من مزاج آخر، من طبيعة تختلف عن طبيعة منشئها، بل انها لغة المسافات القصيرة بين ساحل ضيق وجبال صعبة المرتقى وسهل أشبه بواد بين سلسلتي جبال. هذه العربية اللبنانية لغة المسافات القصيرة هذه، لغة متعجلة يتغير مسارها بسرعة، لغة غير أفقية، متعرجة، ملول، لذلك تتحقق في جمل قصيرة عصبية متوترة، جُمل تبني جمالها الخاص فيكاد ينفصل عن الجمالية العامة للنص. بسبب ما ذكرنا، وربما غيره، تغلب الشعرية على العربية اللبنانية، ويكون نثرها جواهرَ كلام، نوعاً وسيطاً بين الشعر والنثر. ونكاد نقول إن العربية اللبنانية بحكم تكوينها لا تتقبل النثر، لا تدركه، وتكاد تحتقر السرد، تراه خلطاً للجوهر الباقي بالعرض الزائل. أليس لافتاً ما يعاني كتّاب القصة والرواية عندنا ليحتفظوا بقدر من العربية اللبنانية ويمضوا الى سرد يتطلبه هذا النوع الأدبي؟ لست من أهل هذه المعاناة إذ أكتب الشعر والنصوص المعبرة عن مشاهد موحية، فأجد العربية اللبنانية أليفة، كأنها الثوب الملائم لمخلوقاتي. والطبيعة واضحة في كتاباتي، خصوصاً تلك التي يضمها «كتاب الإقامة» الذي أصدرته في طبعة أولى محدودة عام 1982 وفي طبعة كاملة نهائية عام 2009. وكتاباتي عن الطبيعة اللبنانية ومنها، كان دافعها، بعد الإبداع نفسه الذي لا يحتاج دافعاً خارجياً، هو مواجهة طغيان الأدلجة في مرحلة مديدة من الحراك الفكري والاجتماعي في لبنان جعلت المواطنين يسكنون الأفكار لا البيوت، ويحتفلون بصراخ الزعماء لا بزقزقة العصافير لدى فتح النوافذ في أول الصباح. هذه الأدلجة التي اعتبرت لبنان ساحة لا وطناً، واجهتُها بالكتابة عن الطبيعة، بنسغ النبات لا بالحبر: العوسجة التي تدمي لكنها تحمي من الأشرار، وبخور مريم وعد الجمال المنسي، والدفلى شجر السواقي الدائم الفتوة، والأقحوان رهان الحب، والبيدر العطاء ووعد العاشقين، والتين الذاكرة الحلوة، والذرة الملونة ذات الريش، وخطبة الليل التي يمحوها نهار الطبيعة، وعيون البحر المغلقة الأجفان على صور المهاجرين، والتحصيلدار التركي يجبي الضريبة ويتقبل الهدايا بيضاً وطيوراً وأشغالاً يدوية، والعجوز الغريب في بيته يحمل زمنه بيتاً في بيت الحاضر، والأبناء إذ يجتازون فتوتهم الى غربة موعودة، واللبنانيون كلهم في اهتزاز عيشهم ما بين إقامة صعبة وشتات، أحاول وصفه هنا بصياغة كلاسيكية: كانت دوحةٌ مكينةٌ في الأرض تفرّعت في العلى أماليدَ وأوراقاً. وجاء خريف، يهبُّ عاصفات من كل صوب. يسقط الورق عن أمه قسراً وتطوّح به الريح في الجهات. يلملم الورق المذعور نفسه، ويتجمع بعضاً لبعض ليُدفئ قلبه، فتأتي ريح عاتية تطوّح به ثانية تنشُرُه في أطراف الأرض. يذوي الورقُ في غرباته وحيداً ويتفتت في التراب تحت شمس الله الساكتة. الخميس 2/7/2009: مدارات الحداثة يجمع محمد سبيلا في كتابه «مدارات الحداثة» (منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر - بيروت 2009) متابعات لأعلام ومفاتيح أفكار في الحداثة الغربية المتفاعلة عالمياً. كتاب يقدم أفكاراً وتساؤلات تحضّ على تجديد التفكير، ما يعني ان هاجسه نقد دعا اليه في مقدمة نقتطف منها الآتي: «ان اتخاذ موقف نقدي تجاه تيارات الفكر الأوروبي للتمييز فيه بين ما هو خصوصي وما هو كوني، وذلك بعد استيعابه وتمثُّل محدداته، يعتبر شرطاً أساسياً للتعامل مع فكر يتميّز بالغنى والتنوع. لكن عملية النقد والتيقّن لا تتأتى إلا بعد تحقق عنصر الفهم والاستيعاب. إذ من دون فهم معطيات هذا الفكر ومكوناته وعلاقته بظروف انتاجه، يظل هذا الموقف النقدي متعذراً. كما ان خلق حوار بنّاء مع هذا الفكر يقتضي العمل على استيعابه بدقة وعرض محتوياته بأمانة لا يشوبها تحامل مجاني أو تمجيد مبالغ فيه، وذلك بتوفير شروط حوار حضاري يتخذ فيه الفكر العربي موقفاً ناضجاً وحضارياً ومسؤولاً تجاه الفكر الغربي، من دون إحساس بالدونية أو التعالي التعويضي. وأملنا أن يكون حوارنا مع الفكر الغربي مستجيباً بعض هذه الشروط وخطوة نحو فهم بعض أسسه ومكوناته، وسيراً في طريق صياغة الأسئلة والقضايا التي تشغل وتؤرق مجتمعنا وفكرنا».