كنا نقول: لسنا مثل من سبقونا. ليس لدينا ما نخسره. لم نخسر «حلماً جميلاً» لأننا ببساطة كنا بلا أحلام. عشنا منشغلين بالفرار من كوابيس خلفتها أحلامهم المجهضة. وفي غمرة هذا الانشغال اليائس مرت حياتنا من دون أن نحياها. انقضى جزء كبير منها بلا أحداث حقيقية. ثم فجأة وجدنا أنفسنا في خضم حدث مزلزل. ثورة خضناها ونحن نتدرب على النطق بحروف اسمها ونتعلم فهم معناها ومغزاها. الجيل الذي لطالما هرب من الكلمات الكبيرة والمشاعر العميقة، وتحاشى العاطفة والحنين في الكلمات والأفعال، تنازل طوعاً عن عدميته، وانخرط مع الجموع بحثاً عن غد أفضل. جيل خبر معنى اليأس جيداً، وأدرك أنه كالخوف، يأكل الروح. لذا، كان من المنطقي أن يتشبث بحلم الثورة ما إن لاح في الأفق. هي ثورة خيال. تقول صديقة، فأؤمن على كلامها وأحدثها عن صعوبة أن تنكشف الحجب، بحيث يحدق المرء بكل حواسه في الجحيم وقد فُتِحت أبوابه. صعوبة أن يتحول الالتباس إلى حقائق واضحة. أن تجد نفسك فريسة لوابل من الرصاص الحي والمطاطي وقنابل غاز تترك في نفسك وفي جهازك التنفسي أثراً لن يمّحي. مأسور في شوارع تحولت إلى فخاخ مرعبة. هناك من سقطوا على مقربة منك غارقين في دمائهم. ثمة قتلة رأيتهم يرتكبون جرائمهم مبتسمين ببرود، و «مواطنون شرفاء» تعاموا عن مذابح تجرى على بعد خطوات منهم. قبل أقل من شهر، كان ثمة مذبحة في شارع محمد محمود المؤدي إلى ميدان التحرير. الشوارع القريبة من الميدان كانت هادئة هدوءاً خادعاً كأنها تتواطأ لإقناع نفسها قبل الآخرين بأن لا شيء يحدث. المارة هنا وهناك يواصلون روتينهم المعتاد. وحده، الهواء المثقل بالغازات المسيلة للدموع ومعه دوي الطلقات النارية، كانا يفضحان القتلة ويعريان الجريمة الوحشية. بدا «محمد محمود» غارقاً في الدخان الأبيض لقنابل الغاز، ومرتعشاً تحت ثقل القصف العنيف من قوات الأمن لمتظاهرين مثابرين ذوي عزيمة هائلة. في لحظات مماثلة، تحمل الأشياء معانيَ مغايرة عمّا ألفناه، يكتسي كل شيء بحمولات رمزية مكثفة. يُعاد تعريف الشجاعة والبطولة، ويواجه كل فرد دخيلة نفسه بلا أقنعة ويقترب من حقيقته العارية. تصبح الحياة، في حد ذاتها، نَصاً فنياً جديراً بالتأمل. على رغم الألم والأسى يبرق في الذهن سؤال: كيف نترجم هذا النص إلى فن يليق به؟ كيف يمكن أن نعاود الكتابة بالمكر القديم بعد أن تورطنا إلى هذه الدرجة في الحدث الدائر؟ كيف يمكننا أن نخترع لغة موازية لما عايشناه؟ الفن ماكر شرّير، لا مكان فيه للميوعة العاطفية، أو التورط المبالغ فيه أو المديح المجاني. لا يليق بالثورة «السنتمنتالية» المفرطة ولا النحيب الساعي للابتزاز العاطفي. تحتاج إلى فن يشبها. جسور، مقتحم، ومباغت لا يتسول منها شهرة لكاتبه أو بطولة وهمية تسحب الضوء عن الأبطال الفعليين، ملايين الجنود المجهولين الذين كتبوا، وما زالوا يكتبون بدمائهم الطاهرة ولحمهم الحي نص الثورة. قد يبدو سؤال الكتابة ترفاً في أوقات كالتي نعيشها، لكني أراه في القلب مما يحدث حولنا. فالكلمات هي تميمتنا ضد العدم، ضد النسيان. ما أحوجنا إلى التذكر في أوطان مفخخة تحترف النسيان وعدم الاكتراث. أوطان تلونت في 2011 بثورات مبدعة وخلّاقة تتهددها أخطار شتى.