مجلة «برايفت آي» Private Eye البريطانية التي احتفلت أخيراً بمرور 50 سنة على صدورها، تحتل بجدارة مرتبة متقدمة بين منافساتها من المجلات الإخبارية، ولكن ليس فقط مقارنة بنسب التوزيع والمبيعات، بل أيضاً بنسب دعاوى التشهير القضائية التي تُرفع ضدها. فما هي قصة هذه المطبوعة البريطانية الشهيرة؟ تصدر «برايفت آي» (أي التحري أو البوليس السري) مرة كل أسبوعين، وتقوم فكرتها منذ البدء على أن تكون نقدية ساخرة. فأصحابها الذين أصدروا عددها الأول في 25 تشرين الأول (اكتوبر) 1961، كانوا في الحقيقة «شلّة» طلاب يصدرون مجلة صغيرة ساخرة باسم «سالوبيان» في مدرستهم في مدينة شروزبري البريطانية، وبعدما انتقلوا إلى جامعة أوكسفورد اتفقوا مع أصدقاء آخرين على متابعة عملهم الساخر، فوُلدت «برايفيت آي». في البدء كانت المجلة منبراً لنشر الفكاهة والأخبار المسلّية والساخرة، لكنها مع مرور الوقت بدأت تأخذ موقعاً مهماً في الساحة الإعلامية والسياسية في البلاد، وسرعان ما أصبحت تُوصف بأنها «شوكة في خاصرة المؤسسة الملكية» لكونها لا تمل من نشر فضائحها كلما ارتكب أحد أفرادها هفوة أو خطأ ما. لكن نقد المجلة لا يقتصر على أفراد عائلة الملكة اليزابيث الثانية، بل يطاول أي شخصية بارزة، سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم إعلامية، إذا ما ارتكبت «خطيئة» التورط في فساد أو سوء إدارة أو في حال قامت بتصرف ينم عن تكبّر أو تباه على الغير. لكن نشر الفضائح المزعومة لرجال الأعمال وعليّة القوم يحمل معه بالطبع مخاطر مالية كبيرة بالنسبة إلى المجلة، خصوصاً أن القانون البريطاني شديد الصرامة في قضايا التشهير. واكتشف رئيس تحريرها الناقد الإعلامي البريطاني المعروف إيان هسلوب بنفسه فداحة هذا الأمر، إذ ما كاد يتسلّم منصبه عام 1986 حتى فرضت محكمة بريطانية على مجلته غرامة مالية قدرها 600 ألف جنيه استرليني في دعوى تشهير رفعتها سونيا ساتكليف، زوجّة «سفّاح يوركشاير» بيتر ساتكليف. كتب هسلوب آنذاك تعليقه الشهير على الحكم الذي كاد يهدد المجلة بالإغلاق: «إذا كانت هذه هي العدالة... فأنا موزة!». ولحسن حظ «برايفت آي»، خفّضت محكمة الاستئناف قيمة الغرامة – التي كانت الأضخم في تاريخ بريطانيا – إلى 60 ألف جنيه. لم تكن تلك المرة الأولى التي تواجه «برايفت آي» خطر الإغلاق. ففي سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، واجهت المجلة سلسلة دعاوى تشهير رفعها ضدها قطبان بارزان من أقطاب رجال المال والإعلام في بريطانيا هما روبرت ماكسويل (صاحب مؤسسة «ميرور» الإعلامية) والسير جيمز غولدسميث (بليونير وسياسي وإعلامي)، لكنهما فشلا في إغلاقها. وعلى رغم أن هسلوب معروف في الأوساط الإعلامية بأنه أحد أكثر الصحافيين جيئة وذهاباً إلى المحاكم للمثول في دعاوى تشهير تُرفع ضد مجلته، فإن هناك من يلاحظ أن أسلوب «برايفت آي» في النقد الساخر صار أكثر اعتدالاً، ربما لتجنّب مزيد من دعاوى التشهير المكلفة. ويقول مدافعون عن المجلة إنها تستحق الإشادة على رغم الدعاوى الكثيرة ضدها لكونها تجرؤ على نشر ما تخاف من نشره المطبوعات الكبرى. وفي واقع الأمر، فإن بعض الكتّاب والمساهمين في «برايفت آي» هم صحافيون في مطبوعات بارزة، لكنهم يكتبون تحت أسماء مستعارة أخباراً يرفض أن ينشرها رؤساؤهم في أماكن عملهم الأصلية خشية تعرضهم للملاحقة القانونية. وعلى رغم أن «برايفت آي» انفردت كثيراً بكشف سبق صحافي تلو آخر، فإن مشكلتها الأساس كانت في أن كثيرين لا يأخذون ما تكتبه على محمل الجد نتيجة أسلوبها الساخر. ولا يأخذ السبق الصحافي الضجة التي يستحقها سوى بعد أن تبدأ في تناوله الصحف اليومية. وجّهت «برايفت آي» خبطتها الصحافية الأولى بعد نحو عامين من صدورها. ففي العام 1963 كانت بريطانيا مشغولة بفضيحة وزير الحرب جون بروفومو الذي أقام علاقة مع فتاة جميلة تدعى كريستين كيلر كانت بدروها عشيقة لجاسوس روسي يعمل ملحقاً في سفارة الاتحاد السوفياتي في لندن. سعى رئيس الوزراء آنذاك هارولد ماكميلان إلى الحفاظ على حكومته من الانهيار نتيجة كذب وزيره بروفومو أمام البرلمان في شأن علاقته بكيلر. فجاءت «برايفت آي» لتوجّه ضربة مؤلمة له بكشفها أن زوجته الليدي دوروثي ماكميلان كانت تقيم من زمن طويل علاقة مع النائب في حزبه (المحافظين) بوب بوثبي. أغلفة مثيرة للجدل وإلى أخبارها الساخرة في الصفحات الداخلية، اشتهرت «برايفت آي» بأغلفتها المثيرة للجدل. ففي العام 1970 وضعت المجلة على الغلاف صورة للأميرة مارغريت، شقيقة الملكة اليزابيث، بجانب زوجها اللورد سنودون، وكان كلاهما يبتسم ابتسامة مصطنعة أمام الكاميرا في مشهد يُراد منه نفي مزاعم بأنهما غير متفقين ويتجادلان دوماً. وضعت المجلة كلاماً تتفوه به الأميرة مارغريت قائلة: «ما هذا الكلام الذي يتردد عن أننا نتجادل في العلن!»، فيرد عليها زوجها: «التزمي الصمت يا عاهرة وواصلي الابتسامة». وفي العام 1998 وضعت المجلة على غلافها صورة الأميرة الراحلة ديانا تحت عنوان «الإعلام قتلها»، ووزعت داخل العدد قسيمة فارغة مجانية لمن يريد إلغاء اشتراكه إذا لم تعجبه السخريات التي يجدها في الصفحات الداخلية. ولمناسبة الذكرى العاشرة على وفاة ديانا، وضعت «برايفت آي» غلافاً يقول إن ديانا تقول من قبرها إنها تتمنى ألا يعيدوا نشر صورتها على الغلاف من أجل زيادة مبيعاتهم (كانت صور ديانا خلال حياتها مصدراً دائماً لزيادة دخل المطبوعات). ولم تعف المجلة المؤسسة الأمنية البريطانية من انتقاداتها أيضاً. فقد كانت في ستينات القرن الماضي أول من كشف اسم رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية (وهو جهاز لم تعترف بريطانيا بوجوده سوى في تسعينات القرن الماضي). وفي العام 1988، وضعت المجلة على غلافها صورة جنديين من القوات الخاصة «أس آي أس» في جبل طارق خلال كمين قُتل فيه ثلاثة من مقاتلي «الجيش الجمهوري الإرلندي». يقول الجندي الأول لرفيقه: «لماذا أطلقت 16 رصاصة» على عنصر «الجيش الجمهوري»، فيرد الثاني: «نفد الرصاص الذي بحوزتي!»، في انتقاد مبطن للجنود الذين كان في استطاعتهم ربما توقيف المتمردين بدل قتلهم. كما أخذت المجلة موقفاً صارماً ضد الحرب على العراق عام 2003، ما زاد من نسبة مبيعاتها نتيجة وجود معارضة شعبية واسعة لقرار الحرب الذي اتخذه رئيس الوزراء آنذاك توني بلير. وباتت «برايفت آي» عام 2010 أكثر المجلات البريطانية توزيعاً، إذ تجاوزت مبيعاتها (للمرة الأولى منذ العام 1992) ال 210 آلاف نسخة. وتكمن أهمية هذا الرقم في كونه الرقم الحقيقي للمبيعات: الاشتراكات والشراء المباشر من على رفوف محال بيع الصحف والمجلات. ومعلوم أن مجلات أخرى ترفع حجم توزيعها بإضافة أرقام الأعداد التي توزّع مجاناً في الطائرات مثلاً، أو من خلال اشتراكات مجانية. وعلى رغم مرور نصف قرن على صدورها، ما زالت «برايفت آي» تحافظ على صيغتها القديمة، إذ أن غالبية صفحاتها الداخلية بالأسود والأبيض، فيما كل المجلات المنافسة تستخدم الألوان منذ سنوات طويلة.