كان ما يحصل في العراق متوقعاً بعد الانسحاب الأميركي. وجود الجيش المحتل لم يمنع المجازر. ربما كان ينظم الخلاف السياسي، وصمام أمان لنظام ملّي رضي به العراقيون مكرهين، مثلما كانوا مكرهين على التعايش في ظل صدام حسين. انتقل العراقيون من نظام الديكتاتور الفرد إلى ديكتاتورية الطائفة. الفرد يموت أو يزول أما الطائفة فيحرسها الغيب وتعمق جذورها الميثولوجيا. ألا تتكرر أمام أعيننا مآسي الماضي بأحقاده ونزاعاته السياسية بمسوح دينية فيها من الرياء ما فيها؟ أنشئ النظام العراقي «الجديد»، على أساس المحاصصة المذهبية والعرقية، بإشراف أميركي ورضا بعض الإقليم، وغضب بعضه الآخر. نوري المالكي، وقبله الجعفري، يحكم باسم الدستور المفصل على أساس المذاهب والطوائف. طارق الهاشمي، وقبله الدليمي، يلجأ إلى طائفته عندما يُتهم بالإرهاب. يفر إلى حمى الأكراد المنتمين إلى مذهبه. يصبح ضيفاً على بارزاني. يطلب المثول أمام محاكم الإقليم المستقل. لا الحكومة «الاتحادية» تستطيع القبض عليه، ولا زعيم كردستان يتخلى عن حماية المستجير به. وسط هذا التشرذم الذي يفرز تفكيراً و «قامات» في حجم الطائفة والمذهب (لا يقتصر الأمر على العراق)، تحضر مشاريع استراتيجية كبرى قد تؤدي إلى دمار كل الحواضر العربية، من المحيط إلى الخليج، خصوصاً مصر وبلاد الشام، لتنفيذ هذه المشاريع. منذ أربعين عاماً أقام الأسد الأب علاقات متينة مع إيران «الإسلامية»، واستمرت العلاقات مع الأسد الابن. لم ينظر إلى هذا التحالف، منذ نشوئه إلا كونه حلفاً مذهبياً. نادراً ما نوقش في توجهاته الاستراتيجية وتأثيره في المنطقة وفي العالم. حتى عندما اندلعت الحرب الإيرانية - العراقية أيام صدام حسين، نظر إليها من زاوية منع تصدير الخميني ثورته المذهبية إلى الخليج والعالم العربي، وليس من الزاوية الجيواستراتيجية. في المقابل هناك المشروع التركي المتماهي مع الاستراتيجية الأميركية - الأطلسية للمحافظة على المكاسب والمصالح الكثيرة المتحققة في المنطقة، ويشكل الحكم الإسلامي (العثماني الجديد) في أنقرة أحد أعمدته الرئيسة، وجبهته المتقدمة لصد الطموح الروسي (والصيني). ومرة أخرى يستخدم الدين والمذهب والميثولوجيا لدرء الخطر الذي كان شيوعياً ملحداً، وأصبح إمبراطورياً إيمانه ناقص. أما المشروع العربي الذي تبلور في ستينات القرن الماضي في الدعوة إلى الوحدة من المحيط إلى الخليج فقضي عليه بتواطؤ الماضي المتحكم بسلوكنا في الدنيا والآخرة. وفي توجهاتنا السياسية التي تترجم حروباً أهلية بين «القاعدة» وفروعها الكثيرة من جهة، و «عصائب أهل الحق» من جهة أخرى، فإذا بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وغداً عواصم أخرى، مواقع لتفجيرات إرهابية تطيح السياسة والاجتماع والحاضر والمستقبل. كان يلقى اللوم على الأميركيين خلال احتلالهم العراق. ها هم رحلوا، مخلفين وراءهم من، وما، مهد للاحتلال. وكل الخوف أن يمهد آخرون لاحتلال بلاد الشام. نحن ننتقل من ديكتاتورية الفرد إلى ديكتاتورية الطائفة.