هي ثورة ثقافية. ثورة بدأت قبل ربع قرن في شمال باكستان والهند. وانتقلت اليوم إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هذا ما كتبه البريطاني ألستر كروك. لكن ما لم يذكره أنها «ثورة ثقافية» مسلحة تبرر عنفها بفتاوى يطلقها مرتهَنون لماض لا يعرفون منه شيئاً سوى ما يناسب تخلفهم القبلي. «ثورة» لكن منظريها ومثقفيها لا يعترفون بما أنجزته الثقافات المتعاقبة وحركات التحرر، أو الثورات السابقة، على صعيد تكريس المواطَنة ديموقراطياً بعيداً من الطائفة والمذهب واللون والعرق. المثال الأفغاني الذي أعطاه كروك خير دليل على مضمون هذه «الثورة» المسلحة التي انتقلت إلى الشرق الأوسط. في ظل حكم القبائل و «القاعدة»(وطالبان في ما بعد) التي انتصرت على الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي وهزمت الشيوعيين الملحدين لتؤسس، بالتعاون مع الولاياتالمتحدةوباكستان ودول أخرى، نموذجاً للحكم أسوأ من نماذج الحكم خلال القرون الوسطى الأوروبية. ألغيت مدارس البنات. ألغيت الموسيقى، أصبح التلفزيون من المحرمات، منع الإتصال بالخارج، وقمة الديموقراطية عندهم مجلس القبائل المعروف ب «لويا جيرغا». وفي حين كانت الدول العظمى تتصارع على مصادر الطاقة وخطوط إمداد النفط وعلى المناطق الإستراتيجية، كانت القوى المحلية في أفغانستان مشغولة ب «الثورة الثقافية» التي تحدث عنها كروك، «ثورة» مثقفوها لا يقرأون سوى الأوامر والنواهي ليطبقوها على شعب حرم من التعليم، ولا ينقاد إلا لهذه الأوامر أو لرئيس القبيلة. والغريب في الأمر أن مثقفين ليبيراليين، يزايدون على جون لوك في التنظير لليبيرالية، يدافعون عن حق هؤلاء في شن الحروب والوصول إلى السلطة. هذا في «الثورة الثقافية» في شمال باكستان التي أنشئت في أربعينات القرن الماضي على أساس ديني. أما في الشرق الأوسط، حيث يختلط التاريخ القديم والمذاهب والديانات، بالإضافة إلى أيديولوجيا الحركات القومية، فالمسألة أكثر تعقيداً. في العراق، على سبيل المثال، لم تكن طائفة أو قبيلة أو عشيرة لتستطيع الانقلاب على الحكم الديكتاتوري لولا الاحتلال الأميركي وتفكيك الدولة وأجهزتها الأمنية والمدنية، وإعادة تركيبها على أسس طائفية ومذهبية، وما زالت المذاهب تتصارع على السلطة، أي أنها «ثورة» على حكم ديكتاتوري قومي لمصلحة ديكتاتورية عمادها التوافق المذهبي الذي لا يرضي الداخل ولا يرضي جيران العراق الذين أصبح لكل منهم نفوذه في بغداد، ويسعى إلى المشاركة في قراراتها، لمصلحته طبعاً. والمذاهب والعشائر تشكل غطاء لهذا التدخل. نائب الرئيس طارق الهاشمي لجأ إلى تركيا. ومقتدى الصدر يلجأ إلى إيران في كل مرة يغلب على أمره. أما المسيحيون فليس أمامهم سوى الهجرة إلى الغرب الذي يراهم جزءاً من فولكلوره. تبقى العشائر. وفي التعريف أن هذا «المكون» لا يعلو شأنه إلا عندما تتفكك الدولة. ويلجأ إليهم الحاكم، طالباً المساعدة كلما شعر بالخطر.هذا ما فعله صدام حسين قبل سنوات من رحيله. في بلاد الشام لا يختلف الوضع عن العراق كثيراً. أيديولوجيا «الثورة» السائدة دينية مذهبية. لا مكان فيها للتعدد إلا من حيث خضوع المختلفين عن السائد للسلطة المنشودة بشروط لا تنتمي إلى قوانين الدولة المعاصرة ولا إلى المواطنة في هذه الدولة. «المجلس الوطني» الذي يضم أطيافاً مختلفة وينشد الديموقراطية بعد القضاء على الديكتاتورية، لم يستطع حتى الآن بلورة تصور للنظام العتيد. وقد سبقته «الثورة الثقافية» القادمة من التجربة الأفغانية لتحتل الشارع وتؤسس للعودة إلى الماضي، متوهمة أنه مستقبل مشرق. كانت الحركات الثورية في بلادنا تستلهم التجارب الأوروبية وفلاسفتها. وكنا نرى مستقبلنا في ما أنجزته أوروبا على المستوى الثقافي والتقدم العلمي والتنظيم السياسي والحريات العامة، أما اليوم فالمثال قادم من طورا بورا.