قبل نحو عام وجه سؤال إلى زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، من أحد أتباعه حول فصل الجنسين في الجامعات العراقية، وبدا الرد لافتاً لجهة إظهاره تخفيفاً واضحاً في نبرة «رجل الدين المتشدد»، فهو رأى أن «الأمر (فصل الجنسين) واجب لكنه إذا كان ضد رأي المجتمع، فليس من الضرورة مخالفة الاتجاه السائد، ومن الضروري احترام رأي الغالبية التي قد لا ترى في فصل الجنسين اتفاقاً مع ميولها». كان هذا بمثابة «اختلاف» في صورة بدت بملامح حادة بل لا يجمع تحرك عناصرها سياق واحد، من إنكار الطائفية إلى الضلوع في تصفيات ضد السنّة وبخاصة بعد عام 2006، ومن الوقوف ضد المالكي وسلطة الدولة في عام 2008 إلى ترجيح كفته في الموقف الشهير للصدريين الذي تمكن زعيم «دولة القانون» من خلاله أن يصبح رئيساً للوزراء لدورة ثانية أواخر عام 2010، ومن مواجهة لا هوادة فيها مع رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي إلى لقاء جمع الصدر وزعيم «العراقية» في دمشق عام 2010 ذاته والاتفاق على أن «لا عداوة دائمة بل شراكة وطنية دائمة»، ومن إنقاذ المالكي وحكومته في لحظة الغضب الشعبية العارمة في شباط ( فبراير) 2011 من خلال الإيعاز إلى أنصار التيار الصدري بعدم المشاركة في الاحتجاجات حتى وإن كانت سلمية إلى تصعيد لغة النقد لا سيما بعد الانسحاب الأميركي من البلاد أواخر العام الماضي. عن الحدث الأخير، أي الانسحاب الأميركي، ثمة تأثير كبير في مواقف الصدريين وتحديداً زعيمهم، بل إن هناك من يرى فيه حدثاً مفصلياً لا في مرحلة «عراق بلا صدام» وحسب، بل في شكل أداء السلطة العراقية «الوطنية»، فالصدريون تلمسوا مبكراً أن رئيس الوزراء نوري المالكي، بدا وهو عائد من واشنطن في أواخر العام الماضي، وبعد وضع الملامح المشتركة مع البيت الأبيض على «عراق بلا أميركا»، وكأنه «الزعيم الأوحد» والقوي للبلاد، بل إنهم لم يكونوا مغالين في مواقفهم حيال اتهام المالكي نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، بل كانوا أقرب إلى رفض قرار رئيس الوزراء في إبعاد نائبه صالح المطلك عن المنصب، معتبرين أن «تلك المواقف تقود البلاد إلى اصطفاف طائفي»، تبدو هي بأمس الحاجة إلى الابتعاد عنه، في وقت بدأت تتلمس خطاها بعيداً من النفوذ الأميركي المباشر. من هذه المواقف «المفصلية» بدأت «تحولات» الصدر بالانجلاء والوضوح، وراحت «وطنية عراقية» تبتعد عن النفوذ الإيراني خطوة خطوة: العودة إلى النجف الأشرف، التنظيم الحثيث للصفوف وبطريقة ممنهجة تعتمد الانتخابات للقيادات حتى في مستوياتها الأصغر، مراجعة المواقف السابقة للأنشطة العسكرية للتيار ونقدها بقوة وصولاً إلى وقف أي نشاط عسكري طالما أن «المحتل خرج من البلاد» في إشارة لا تخفي أن أي احتفاط بالنشاط العسكري في ظل سلطة وطنية يعني إبقاء خيار المواجهة المسلحة مع «الشركاء» في الوطن، والتشديد على أن لا ملامح حزبية للمسؤولين الصدريين في الحكومة، بدءاً من الوزراء إلى الدرجات الوظيفية العادية، إلى حد أن زعيم التيار شدد على منع أي زيارة لمسؤول حكومي كبير من أتباعه إلى أي من مكاتب تياره ومقاره الحزبية المعروفة ب «مكتب الشهيد الصدر». غير أن الحدث الذي كثف المؤشرات نحو بناء «وطنية عراقية» من نوع ما، عند التيار الصدري، كان تمثل في «الزيارة التاريخية» لزعيمه إلى أربيل الربيع الماضي، والاصطفاف السياسي «العابر للطائفية والعرقية»: اجتماع أربيل التشاوري أواخر نيسان (أبريل) الماضي الذي ضم قيادات كردية مثلها رئيس الإقليم مسعود بارزاني وسنّية ممثلة ب «العراقية» رغم قائدها الشيعي أياد علاوي، وبحضور رئيس الجمهورية جلال طالباني وإن كان تخلى لاحقاً عن كونه أعطى أي التزام في الاجتماع الذي كان عنوانه: سحب الثقة من رئيس الوزراء نوري المالكي. «تلك اللحظة التاريخية» بدت وكأنها تمثل وعياً من قبل زعيم التيار الصدري لخطوة توجهات المالكي في تأزيم المواقف مع طرفين أساسيين في التكوين الاجتماعي والسياسي العراقي: السنّة والكرد، وهو ما كان يبدو توجهاً لدفع البلاد نحو مواجهة طائفية وعرقية أيضاً هذه المرة، إلى حد أن موقفه في الانتقال إلى «الطرفين المستهدفين» بدا وكأنه ليس وقفاً لخطوات التأزيم وصولاً إلى المواجهة، بل لخلخلة «موقف شعبي شيعي» يصفه خبير سياسي أميركي من أصل عراقي بأنه «شوفينية شيعية» تصعد ضد السنّة والكرد، وهو ما نجح فيه مقتدى الصدر إن كان «بوعي شخصي تام منه لامتدادت تلك اللحظة وأخطارها، أو بحسب اتصالات مع مستشارين يثق بهم»، كما يقول الخبير الذي رفض الإفصاح عن اسمه، موضحاً «لا أستبعد أن يكون هناك إيرانيون من الذين يرفضون نهج التصعيد الذي تعتمده سلطة الولي الفقيه قد نصحوا الصدر بأن استعداء المالكي القيادات الكردية والسنّية يجر العراق إلى مواجهة تبدو عبئاً كبيراً على الوجود السياسي للشيعة على رأس السلطة في العراق، مثلما تبدو عبئاً على إيران المشغولة بمواجهة الغرب من جهة ومواجهة تداعيات تراجع نفوذها الإقليمي في سورية ولبنان، وهي لا تريد أن يتعرض نفوذها في العراق إلى خطر مماثل». وفي حين تبدو مثل هذه الرؤية التحليلية مستندة إلى «تأثير إيراني غير رسمي أقرب إلى النصح» ما انفك فاعلاً على الصدر، إلا أنها تبقي الباب مفتوحاً على ابتعاد الصدر عن الموقف الرسمي الإيراني الممثل بسلطة الولي الفقيه التي كانت واضحة في رفضها سحب الثقة من المالكي، وهو ما واجهه الصدر. وأضفى الصدر بعداً «فكرياً» على موقفه في التصدي لصعود المالكي بصفته ممثلاً لظاهرة «الزعيم الأوحد» الآخذة بالتشكل، ففي موقف يحمل قراءات كثيرة، ليست سياسية وحسب، بل فكرية واضحة، أوضح الصدر رداً على سؤال من أحد أتباعه فيما إذا كان موقفه يشكل خطراً على التشيع باصطفافه مع السنّة والكرد، بالقول بجملة بدت مستندة إلى قراءة للموروث الشيعي والموقف من السلطة: «الخطر على التشيع هو ظهور ديكتاتور شيعي». وهي إشارة إلى أن الخطر الحقيقي على وجود الشيعة على رأس السلطة في العراق أن يكون قائد تلك السلطة، ديكتاتوراً، وهو وصف بدا صادماً للمالكي ومعسكره، كون صفة الديكتاتورية كانت تأتيه من خصومه: السنّة والكرد، فيما جاءت جملة الصدر لتكون أول إشارة غير مباشرة إلى خطر المالكي الشيعي على التشيع ذاته. المتفائلون من هذه «التحولات» يزيدون على مواقف الصدر تلك بآخر سخر فيه من معسكر المالكي القائل إن زعيمهم يمثل لحظة شعبية وتأييداً واسعاً سيتجسد فوزاً ساحقاً في أية انتخابات، فالصدر رد ساخراً بالإشارة إلى شعبية الديكتاتور العراقي السابق، وقال «يتحدثون عن شعبية المالكي مثلما كان نظام صدام يتحدث عن شعبية زعيمه». لكن الخائفين من «تحولات الصدر» وتحديداً في الأوساط الشعبية المتوجسة فعلياً من خطورة صعود المالكي بصفته مشروعاً لديكتاتور مقبل، ما انفكوا يقدمون أمثلة سابقة على مواقف «إيجابية» للصدر كان تخلى عنها إلى أخرى مناقضة لها، وبالتالي فهم متوجسون من مدى إمكان أن يمضي الصدر في مواجهته «الديكتاتور الناشئ» إلى آخر المشوار!