من أوضح آيات الجهل بعلم الاقتصاد، بل بأسس الحياة الاقتصادية اليومية، الظن بأن ارتفاع قيمة عملة صعبة نسبة إلى بقية العملات يخدم دائماً المصالح الاقتصادية للدولة التي تمر قيمة عملتها بارتفاع ملحوظ. لنأخذ الفرنك السويسري مثلاً: ارتفعت قيمة الفرنك السويسري نسبة إلى الدولار الأميركي بسرعة وبنسب كبيرة، حيث كان السائح الأميركي أو الخليجي الذي ترتبط عملته بالدولار الأميركي يحتاج إلى دفع 85 دولاراً مقابل كل 100 فرنك سويسري قبل سنة 2008، يدفعها لفندق أو مطعم أو سائق تاكسي أو لشراء سلعة ذات منشأ سويسري، أما في الشهر السابع من سنة 2011، فهو يحتاج إلى التخلي عن 137 دولاراً ليحصل على 100 فرنك. ثم تبدلت قيمة الفرنك قليلاً، حتى صار السائح أو المستورد من سويسرا لا يحتاج إلا إلى التخلي عن 127 دولاراً في مساء يوم الجمعة 3/9/2011. فما هي المشكلة بالنسبة إلى المواطن السويسري نتيجة لارتفاع قيمة عملته الشرائية؟ ألا يعني ارتفاعها تدني أسعار ما يستورد من سلع وخدمات أميركية المنشأ أو ما يستورده من بترول بنحو 40 في المئة خلال سنوات قليلة؟ نعم، كل ما يستورد السويسريون أصبح أرخص وأرخص بنسبة كبيرة، وهذا يخدم مصلحة عامة السويسريين لو كان جميع أفراد سويسرا من الأطفال والمتقاعدين الذين يستهلكون فقط ولا ينتجون، وبالإضافة إلى ذلك لا يستهلكون إلا المستورد، وباستطاعتهم الامتناع عن شراء أي سلعة أو خدمة محلية، كخدمات النقل والفنادق والمطاعم. غير أن ارتفاع قيمة أي عملة هو سلاح ذو حدين، بحيث يؤدي إلى رخص المستورد، وبالتالي زيادة استهلاكه، كما يؤدي أيضاً إلى ارتفاع أسعار الصادرات، وبالتالي كساد بيعها وإلحاق الضرر بكل من له صلة بالصادرات، من عاملين ومستثمرين ومقدمي خدمات. وما خدمات المطاعم والفنادق وغيرها من عناصر ما يسمى ب «صناعة الضيافة» إلا صادرات بطرق غير مباشرة، لأن أهم المستفيدين منها سياح أجانب يحولون عملاتهم الوطنية، التي تدنت قيمتها، إلى الفرنك السويسري الذي ارتفعت قيمته. وماذا عن صادرات سويسرا إلى دول الاتحاد الأوروبي؟ ارتفعت قيمة الفرنك السويسري نسبة إلى اليورو خلال السنوات الأربع الماضية بما يقارب 20 في المئة. وهي بالطبع أقل من نسبة ارتفاع الفرنك بالنسبة إلى الدولار، لكنها لا زالت نسبة كبيرة، وآثارها غير محمودة على سياحة مواطني دول أوروبا في سويسرا وعلى الصادرات السويسرية إلى دول الاتحاد الأوروبي. إن عمود الوسط بين الأعمدة التي يقوم عليها الاقتصاد السويسري، هو الصناعات الدقيقة، كالساعات وآليات تصنيع الصناعات الدقيقة، والصناعات الصيدلانية من أدوية وأدوات تشخيص ومواد تطعيمية، والصناعات الغذائية والسياحة الصيفية والشتوية بكافة أنواعها. وأكثرية هذه المنتجات السويسرية لا بد من بيعها خارج سويسرا، أي تصديرها. لكن تكاليف إنتاجها تُدفع بالفرنك الذي أدى ارتفاع قيمته إلى انخفاض المطلوب منها خارج سويسرا بسبب ارتفاع قيمة شرائها بالعملات الوطنية خارج سويسرا. إذاً، من الواضح أن ارتفاع قيمة الفرنك السويسري بهذه السرعة الصاروخية خلق صعوبات اقتصادية كثيرة، مما أدى فعلاً إلى انخفاض نسبة نمو دخلها الكلي أو ما يُسمى ب «الدخل القومي» من نحو 2.6 في المئة في نهاية سنة 2010 إلى أقل من نصف هذه النسبة في صيف 2011. وهل استفاد أحد من السويسريين من ارتفاع قيمة الفرنك؟ نعم استفاد كل من تسمح له ظروفه الاقتصادية بالاقتراض لبناء شيء جديد أو للتجديد والإضافة، فمثلاً إذا كانت هناك شركة ناشئة من الشركات التي توظف تطبيقات علوم الجينات في إنتاج أدوية فاعلة وتحتاج إلى التوسع لزيادة إنتاجها، فإنها تستطيع الحصول على قرض بالفرنك السويسري بعمولة تقل عن 2 في المئة، فما يصل سويسرا من تدفقات نقدية أجنبية يتم تحويله من البنوك السويسرية إلى الفرنك السويسري فيخلق فائضاً من ودائع البنوك السويسرية بالفرنك تسعى إلى الاستفادة منه بإقراض كل ما تستطيع إقراضه للقادرين على الوفاء، وهذا أدى إلى انخفاض تكاليف الاقتراض. وكذلك استفاد من يستمد مصدر عيشه من استيراد النفط إلى سويسرا أو يكون النفط أحد مكونات نشاطه الاقتصادي، كأصحاب الشاحنات وبقية وسائل النقل. لكن المستفيد الأكبر من مأزق ارتفاع قيمة الفرنك، هو البنوك السويسرية، فارتفاع قيمة الفرنك يدفعها إلى المراهنة على أن هذا الارتفاع قد يستمر، ولذلك يبيعون ما لديهم من عملات أجنبية، كاليورو والدولار والين والإسترليني وغيرها، ويشترون بقيمة ما يبيعون فرنكات سويسرية، وهذا يعني أنهم يحوِّلون ممتلكاتهم من العملات الأجنبية أو ما يحصلون عليه من قروض بالعملات الأجنبية إلى فرنكات سويسرية، مما يؤدي إلى ارتفاع الطلب على العملة السويسرية وزيادة المعروض من العملات الأخرى، وهذا بدوره يرفع قيمة الفرنك المرتفعة ابتداء، فيزيدها ارتفاعاً. وفي يوم الأربعاء (3/8/2011) خفض بنك سويسرا المركزي مستوى الفوائد التي تدفعها البنوك بعضها بين بعض مقابل الودائع بالفرنك السويسري، من نحو ربع واحد في المئة إلى نحو الصفر. غير أن سبب تدفق العملات إلى البنوك السويسرية ليس البحث عن العائدات المنخفضة على الودائع إنما لتحقيق مكاسب أعلى في شراء الفرنك إن استمر ارتفاعه، أو اللجوء إلى الفرنك بصفته عملة مستقرة نسبة إلى بقية العملات التي قد لا يتيسر التنبؤ بمستقبل قيمها الشرائية. إن محور الاقتصاد السويسري ومنذ ما يزيد على مئة سنة، هو التصدير، وما يضر الصادرات السويسرية يضر الاقتصاد السويسري عامة، وإن أفاد البنوك السويسرية، أما قطاع النقل الذي يفيده ارتفاع قيمة الفرنك للتقليل من تكاليف الوقود، فيضره في الوقت ذاته تدني الطلب على خدماته بسبب هبوط كميات الصادرات. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي