تشهد سورية تحركاً غير مسبوق، يتعلق بطرد الأب اليسوعي باولو دالوليو، الذي يعيش في دير مار موسى القريب من النبك شمال دمشق منذ ثلاثين سنة قضاها كأقرب ما يكون إلى حياة مواطن سوري مجتهد، حريص على شؤون بلده الثقافية والاجتماعية والروحية. وهو سلوك بدأ مع وصوله الى سورية واستمر يلازمه. والأساس في قضية الأب باولو، أن جهات رسمية سورية أبلغت مصادر كنسية ضرورة أن يغادر الرجل البلاد بحجة «أنه خرج عن نطاق مهمته الكنسية»، وهي ذريعة لا يمكن اعتبارها كافية لطلب المغادرة، والتي تسرب خبرها إلى أوساط سورية قبل أن ينتقل إلى صفحات ال «فايسبوك»، ما فتح الباب على تداعيات شعبية، وقد جاءت في سياقها ثلاثة نشاطات، كان أولها قيام سوريين بفتح صفحة تضامن مع الأب باولو لإبراز رفض السوريين لقرار السلطات إبعاده، والثاني إصدار بيانات تدين القرار وتطالب السلطات بوقف تنفيذه، منها بيان اصدره مثقفون سوريون وآخر أصدره شبان وناشطون، وثالث النشاطات كان دعوات تضامن عامة سعت إلى إدخال موضوع التضامن مع الأب باولو في سياق حركة الاحتجاج الشعبي في سورية عبر السعي إلى تسمية «جمعة سورية وطن الأحرار... وطنك أيها الأب باولو». وكما هو واضح، فان رد الفعل الواسع على قرار طرد رجل الدين اليسوعي، يملك مبرراته، ليس في روحية السوريين التي تتجلى على نحو واضح في حراكهم الشعبي انفتاحاً وتآزراً وتضامناً في وجه قرارات العسف، إنما أيضاً في الروابط التي أقامها الرجل مع أوساط سورية تتعدى منطقة القلمون التي يعيش فيها الى مناطق أخرى سورية، وصلت إليها سمعة الرجل وعلاقاته. وقد أضاف إليها دخوله على خط الحراك السوري وتفاعلاته من الباب العريض في مشاركة السوريين قلقهم، ثم في تقديمه رؤية لمعالجة الأزمة السورية. فالرجل الذي وصل إلى سورية أوائل الثمانينات، اختار العيش في دير مار موسى القريب من مدينة النبك في القلمون، وقد تحول الدير من بناء بسيط إلى مركز روحي وثقافي واجتماعي كبير بفعل جهود الأب باولو ومساعديه الذين بذلوا جهوداً استثنائية طوال ثلاثة عقود متلاحقة، وكان من تعبيرات التحول في حياة دير مار موسى، توسيع إنشاءات الدير وتطوير بنيته التحتية وخدماته والاعتماد المتزايد على المصادر الذاتية في حياته اليومية، إضافة إلى حضوره في حياة سكان المنطقة من المسلمين والمسيحيين الذين يعرفون الأب باولو عن قرب، ويتعاملون معه كواحد منهم، يشاركهم في كثير من تفاصيل حياتهم وخاصة في العادات والتقاليد، وفي تعزيز أوجه العلاقة بين المواطنين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية. تحول الدير بفعل حضور الأب باولو فيه إلى مكان لقاء باحثين ودارسين ومهتمين، فعقدت فيه ندوات وجرت نقاشات لم تقتصر موضوعاتها على الشأن الديني والعلاقات بين الأديان، بل أضافت إليها موضوعات معرفية هي في صلب الاهتمامات الإنسانية المعاصرة، وكثير منها في صلب اهتمام السوريين. وكان من الطبيعي لرجل بهذه الحساسية الروحية والإنسانية، أن يتحسس آلام السوريين في ضوء ما شهدته البلاد منذ أواسط آذار الماضي، فوقف عند تلك الأزمة محللاً طبيعتها، قبل أن يرسم خطوط الخروج منها. وفسر الأب باولو الأزمة بالقول: سورية ضحية نوعين من التوتر: الأول ذو طبيعة ثقافية، حيث إن قسماً كبيراً من الشعب السوري لم يعد يريد العيش تحت وطأة ديكتاتورية استبدادية، والثاني يمثله التمسك المطلق بالسلطة والمضي إلى أقصى الحدود في استخدام «منطق القوة»، الذي تجاوز كل الحدود المعقولة. وفي ضوء تطور الأحداث السورية التي أدت إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة، إضافة إلى ترديات سياسية وأمنية، رأى الأب باولو أن ثمة حاجة للمصالحة وتحقيق وفاق يأخذ في الاعتبار جديّاً ما يُطالب به كلّ من الأطراف بطريقة معقولة، تترافق مع تحقيق شروط أساسية، أهمها الاعتراف بالتعددية وبحرية الرأي، ثم حريّة التعبير عنه، ثمّ حرية النشر مع احترام الآراء الأخرى وتقديرها والحفاظ على سلامة جميع المواطنين وكرامتهم. ونتيجة المصالحة من شأنها أن تأخذ البلد من الأزمة إلى حل، في إطار مرحلة انتقالية تقوم الخطوة الأولى فيها بتوفير الأمن للمواطنين من دون منع المطالبة بالحريات وممارستها بطريقة سلمية. إضافة إلى توفير الأمن للمؤسسات والمرافق العامة، وضمان حرية التنقل ضمن البلد وعدم تعطيل النشاط الاقتصادي، ومحاربة التهريب، لا سيما تهريب السلاح، أثناء هذه الفترة الانتقالية. ويرافقها اتفاق لتشكيل لجنة عُليا لوضع مشروع تعديل الدستور، تتمثل فيها تيارات المعارضة كلها والقوى الوطنية جميعها. يعود لهذه اللجنة تحديد وتنظيم الانتخابات المقبلة وضمان نزاهتها بمشاركة اللجان الشعبية المحلية مع التغطية الإعلامية التعددية الحرة. لا بد لهذه اللجنة من إرساء وفاق وطني جديد، واقتراح الخطوط الرئيسة للدستور الجديد لضمان توطيد ديموقراطية وطنية توافقية لا تغلُّبية، تعددية لا أُحادية الجانب. والديموقراطية التوافقية، التي تمثل الأساسَ -وفق رؤيته- لحل الأزمة، مبنية على أهمية دور الرئاسة باعتبارها جهة ضامنة للوحدة الوطنية والتي تلعب دور الحَكَم الأعلى والمحامي عن كل كتلة اجتماعية مهمشة على اختلاف الأسباب. لذلك لا بد من انتخاب هذا الرئيس من خلال عملية توافقية تفاوضية، وأيضاً من خلال إيجاد الحل الوسط الأمثل بين مكونات المجتمع. ويستكمل دور الرئاسة في فكرة الديموقراطية التوافقية باعتماد كيانين تمثيليين، أولهما مجلس نواب يتم انتخابه انطلاقًا من قوائم لكل الأحزاب على أرض الوطن كله، والثاني مجلس للشيوخ يجمع ممثلي المناطق، ما يساعد في ضمان تمثيل المكونات الوطنية المتصلة بالانتماء العرقي أو الديني وغيرهما. وتتمة نظام الديموقراطية التوافقية في إقامة السلطة التنفيذية تتمثل في المزاوجة بين التعيين والانتخاب، حيث يُعيِّن رئيسُ الجمهورية رئيسَ مجلس الوزراء، الذي يقوم بتشكيل الحكومة تحت موافقة مرجحة لمجلسَي النواب والشيوخ، فيما ينبغي انتخاب المحافظين من مجالس المحافظات لضمان التوافق الاجتماعي المحلي والتناغم الطائفي.