يقول التاريخ إن القبيلة العربية كانت تتمتع بمرونة عالية تجاه الحريات الشخصية للفرد، واختيار المعتقد، وكان يوجد في جزيرة العرب قبائل يتقاسم أفرادها اعتناق اليهودية، النصرانية، والوثنية على ذات أرض وسماء. كان الرجل من نسل القبيلة القديمة يمر شامخاً بين جبال وأمم بهامة تعلوها، مدركاً أن الحجر قبل البشر يعرف أن مجتمعه وعاء يستوعب زنادقة، رهباناً، قساوسة، ملحدين، ومشركين عبدوا تماثيل تمْرٍ، ثم عندما شربوا الإسلام وسقوه للبر والبحر، لم يسكبوا أقداح ثقافتهم على الطرقات، ولم يقايضهم الإسلام على هويتهم الشخصية. تقول الذاكرة الشعبية القريبة إن نساء قبائل البدو الرحل عشن عصراً ذهبياً أتاح لهن المجاهرة بالعشق، ركوب الخيل، الرماية، الرقص مع الرجال في مناسبات جماعية، وكذلك السماح للريح بتقبيل ملامح وجوههن أينما رحلت بهن الأقدام. تبدلت الأيام، وأتى عاشقات بقصائد ممهورة بأسماء مستعارة، وسيارات لا تقودها نساء، بينما لا رقص إلا مع نساء «غجر» بلاد الشام، ولا درب للنسيم إلا على سواد نقاب وكثيف أشناب. تتمدد بعض قبائل البدو الرحل بين دولتين أو أكثر، وحده الشق السعودي استقبل سمات جديدة، استجاب لمؤثرات «فوتوشوب»، وتقنيات نسخ ولصق حتى صارت عيوني من بريدة، ولساني من الرياض، لكن لا يزال «خشمي» كما هو من الشمال حيث دمي يسكن جسد ابن عمي في الأردن، وسينا، هناك موروث القبيلة جبل شامخ. يصعب قبول أي وصف للقريب من أجدادنا بأن لا مروءة تسكن أجسادهم، أو غيرتهم أقل من عقيدتهم، فآنذاك كان الرجال يتخلون عن أسمائهم وأسماء آبائهم ويكتفون بأسماء أخواتهم، ف «أخو نورة» كان الاسم الأشهر والاقرب إلى قلب مؤسس الكيان المغفور له الملك عبدالعزيز، تبدلت الأفهام، فأصبح «أبو غائب» كناية لمن رزقه الله بذرية بنات، وكلمة «الأهل» رمز استخباراتي لكل كهلة وطفلة، كتطبيق معنوي لمفهوم «وأد» البنات. توالت انكسارات ثقافية في جسد القبيلة حتى صارت مفصولة تماماً عن امتداد ألف سنة ونيف من صناعة تراكمية للهوية، ضاع إنسان القبيلة وأصبح مجرد لقيط تبنته بيئات جديدة. كانت يد العثمانيين أول من دنس طهر ثقافة وفكر القبيلة، ثم أتى من بعدهم أقوام نجحوا في تحويل نسختها الحديثة إلى حالة «عقوق» لكل «موروث»، ومنحوها دثار «محروث» من بطون كتب قديمة، ونظريات تعتقد أن توحيد الوطن يستلزم إحراق تاريخ القبائل، ثقافاتها، تمايزها، وخلع ملابسها، فلا تكتمل وطنية «الرجال» إلا إذا تطوّق بعقال. نسيت القبيلة موروثها فضاعت حرياتها، توعكت ثقافياً واجتماعياً، نبذت كل تاريخها حتى أزياءها، تعرت واستجابت طواعية أو كرهاً لأصوات قالت برجسية الجدود، ولولا أنهم يسكنون اللحود لرجموا. حقق بعض الشعوب قدرة على التمسك بموروثهم على رغم أنف العثمانيين، في صدارتهم غجر العرب، بما فيها وفاء نسائهم الرافض نسيان الراقص بديارهن، فيصدحن «تحية لخالد في غيابه»، وخالد يرد «تحية للموروث في غيابه». [email protected] twitter | @jeddah9000