للقرى والمدن جسد وعقل، البشر غذاء المدن، أحياناً أكثر يكون فاسداً، فيصبح للمدينة أمراضها، يتساقط جلد الإنسانية وينسلخ عن وجهها، وتتحول إلى زوجة أب، تلبس ثياب الأم ولا تملك قلبها. جدة - تحديداً - تعلمت القسوة سريعاً، قد يكون إنفلات توازن التركيبة السكانية فيها سبباً لتلوث عقلها، يغرق كل جداوي بين عشرات من غير الجداويين، لم تعد جدة حانية على غريب كما كانت، ولا تطعم مسكيناً كما كان أهلها. تغير كثيراً عقل مدينة جدة، تصحر أكثر، ليس للبحر تأثير، فلأنه لم يعد مصدر رزق، أصبح مجرد لوحة زرقاء معلقة على جدار السماء، حتى أنه لم يعد يأتي بدماء جديدة تمنح جسد جدة موروثاً إضافياً من أخلاقيات سامية ممزوجة بأدوات اقتصادية ماهرة. بات ليل جدة دياراً ليتامى الطفل المتسول لكلمة طيبة، قبل ريالات تذهب لمافيا دولية، ثم إذا أشرقت الشمس انكشفت أرصفتها عن تكتلات من نسوة أفريقيا السمراء، وصغارهن حتى يأتي الغروب ونيف، فمعظم أرصفة جدة مزارع لفلاحة البؤس وقطفه. تذهب النسبة الكبرى من الكثافة السكانية إلى جينات وحناجر غير عربية، بعضهم أتت به أقدار قاسية من ديار قاسية، طاقتهم السلبية ذات تأثير واسع، ثم جاء نظام الكفيل بتكريس للقسوة، وقدرة على تحويل الفرصة الوظيفية في السعودية من حلم كبير إلى نفق كدح وشقاء، فاللهم ارحم البلاد والعباد من نظام الكفيل. يتحدث أهل جدة عن الرياضة أكثر من بحثهم عن حلول لمدينة سيكون الشحاذون والمتسولون غالبية فيها خلال سنوات قليلة، فبخل الناس برحمة الناس يرفع مستويات الجفاف حتى في شعر قطط تتناثر في شوارعها أو أيادي رجال ونساء ينبشون - وبشكل روتيني - صناديق النفايات، وحده الجوع القارس يحرض الآدمي على ممارسة سلوك مضطرب، بما في ذلك القتل، بينما السرقة في هكذا تناقض تكون خارج دائرة تطبيق الحدود نصاً أو تعزيراً، فطالما كان لكل قيامته، فلكل فقره، وعذره. كانت شوارع جدة مكتظة بلكنة حجازية «خفيفة دم»، ومليئة بالذكاء لغة ومعنى، محشوة بالوضوح والليونة، وتعبيرات رحيمة جداً، أما الآن باتت لغة خجولة، تنزوي في الأماكن العامة، كأنها وسيلة تواصل بين جالية فقط، اختارت جدة الاعتماد على لغة جديدة، اللغات الجديدة تستوجب إجادة تامة حتى تصل الصورة كاملة، لم تعد جدة تتكلم كما كانت، وبالتالي لا تسمع بوضوح، هذه قسوة ضد السابق واللاحق من ساكنيها. اختفت عن جدة قدرتها السابقة على الإيمان بالقضاء والقدر في زوايا الرزق، وجلب المال، باتت «الفهلوة» الرشوة، العمولات جوالب رزق أكثر من الوظائف، وكذلك صدق التعامل، فالوافدون من الداخل أو الخارج يمارسون سياسة «اشبع فطير وطير»، أو كدلال بنات الهوى، فمن تقسو على الديار تقسو عليه، ذلك قصاص. كان ولا يزال أكثر الفاعلين في بناء خيمة القسوة على أرض جدة هم أبناء قومي «البدو»، تدثرنا الحضارة لباساً وعجزنا عن هضمها مضموناً، قسونا على جدة كثيراً، أتيناها جياعاً فأطعمتنا، عراة فكستنا، جهلاء فهذبتنا، وعندما أصبح القط نمراً بات يلغي التاريخ، ويسرق الجغرافيا، وحاربنا ثقافتهم، شككناهم حتى في عقيدتهم، سلبناهم هويتهم، أجبرناهم على التوقف عن امتدادهم الطبيعي، وعلى رغم ذلك لم نك أكثر من أهل جدة قسوة عليها، لأنهم صدقونا وكذبوها، أطاعونا وعصوها، معظمهم اعتقد أن أسلافه كانوا خطائين، فالقسوة على التاريخ والموروث وإقصاؤهما بعمليات قيصرية يؤدي دوماً إلى كآبة تملأ أرض وسماء المدينة. [email protected] @jeddah9000