مدينة لا تتغير من طور إلى آخر هي مدينة تحتضر احتضاراً بطيئاً. وكلما احتضنت إرثاً تاريخياً واسعاً وغنياً ومتنوعاً، صار بقاؤها، نابضة بالحياة، عسيراً نتيجة الحسبان الشائع بأن تشييد مبنى جديد بارز يقوض تناسق جمال مشهدها. والساكنون في جوار الموقع المخصص للمبنى الجديد يوحدون صفوفهم في جمعيات، ويصوغون عرائض الاحتجاج، ويلجأون إلى المحاكم، وهم على بيّنة من إجراءات تأخير مشروع البناء تأخيراً يثني المتعهد، ويثبط مساعيه. وفي مرحلة ما بعد أيار (مايو) 1968، عملتُ بصفتي مهندساً «مشاركاً» مع جمعيات بيئية ومحلية أهلية أرادت أن تنتهج نهجاً جديداً في السكن والعيش. وعلى خلاف تلك المرحلة، تسعى اليوم الجمعيات إلى الدفاع عن حقوق الأفراد والأوضاع الراسخة. ويسود تيار ضيق الآفاق ومحافظ، ويعوق التجديد في اجتماعات إدارة الملكية المشتركة. وفي باريس، تبرز الحاجة إلى شجاعة سياسية مقدامة لدفع عجلة التغيير الهندسي. وهي مدينة تجتمع فيها كل ذرائع الشلل الهندسي التجديدي. وتدمير مبانٍ عابقة بهوية العاصمة الفرنسية أيسر من تشييد مبنى جديد في باريس. فالأمكنة التي استقرت فيها روح العقود الماضية تُدمر من غير أن يحتج أحد ويُمحى أثرها ويُزال. فمشاريع هدم الحانات الصغيرة وصالات سينما القرن العشرين تنال رخص الهدم، فيأخذها النسيان وتغيب في غياهبه. وتهمل الأروقة والسطوح الباريسية إهمال الأرض البور. وروح المدينة تقبع كذلك في قلب مبانيها وداخلها. وهيمنة سياسة إبقاء واجهة المبنى وتدمير داخله وتغيير وجهه خلفت أضراراً كبيرة في نهاية القرن الماضي. ويفترض أن ترمي استراتيجية مدينية ديناميكية إلى تسريع وتيرة التغيير تغييراً لا يجافي الذاكرة ولا يلغيها. وعلى سبيل المثل، انتهت أحوال جزيرة سيغان إلى مآل مأسوي. وهي كانت مكاناً بارز الطابع وماثل الحضور تزينه مبانٍ رائعة موروثة من ثلاثينات القرن الماضي. وأزيلت هذه المباني ودرست أثارها، في وقت نجحت ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية مثل النمسا وبلجيكا في الحفاظ على المباني الصناعية المتداعية. ويخشى الباريسيون وممثلوهم تضخم «كثافة المكان» وعلو ارتفاع المباني والاختلاط، أي الجمع في حيز مكاني واحد بين مرافق السكن والعمل والتجارة. ورفض الكثافة يعود إلى إنشاء المدن من غير الاحتذاء على نموذج المنزل العائلي الصغير. فلم يعرف الفرنسيون كيفية إنشاء حيز مديني يدعو النازلين فيه إلى حبك علاقات جوار تشبه تلك السائدة في قرى الأرياف. ويبعث على الأسف إنشاء مدن جديدة ينخرها الفراغ من غير روابط أو وصلات هي الجسر بين المكان والصبغة الإنسانية والعلاقات البشرية. وفكرة الكثافة المكانية - السكانية لا تلقى قبولاً إلا إذا قرنت بهوية خاصة وبنية مركبة. وخير دليل على ذلك أن الكثافة هذه في باريس هي الأعلى في دوائرها العشر الأول الأغلى عقارياً - والطلب عليها كبير. وفي هذه الدوائر مظاهر الاختلاط الاجتماعي والمكاني متنوعة: تجاور المتاجر الصغيرة والشركات الصغيرة والمصانع الحرفية الصغيرة، والمكاتب والشقق السكنية. والقوانين المدينية الفرنسية تعوق مثل هذا الاختلاط. وردُ المسؤولين الأول هو اقتراح نقل التجارات مثلاً إلى خارج المدينة، خارج الحياة. والسياسة هذه مدمرة، وتلوث البيئة. وهي كارثة على مقياس النمو المديني المستدام. فهي تؤدي إلى تكثيف شبكات النقل، وتحوّل الوسط التجاري وسط المدينة. والخواء هو قلب مدينة تنبذ التجاور والإلفة والاختلاط. وثمة صور سلبية كثيرة مرتبطة بالمباني المرتفعة في عقول الباريسيين. فالأبراج المرتفعة هي نقيض الحي الأليف والقرية الصغيرة المطمئنة. ويحسب عدد كبير من الفرنسيين أن الأبراج العالية تلوث الطبيعة. وهذا الحسبان في غير محله. وباريس فاتها قطار تشييد الأبراج وناطحات السحاب في مرحلة نزوح السكان من الأرياف إلى المدينة إثر الحرب العالمية الثانية. وغلبت كفة توسيع المدينة على «تكثيف» أو رفع كثافة حيزها المكاني. فارتفع عدد المجمعات السكانية الواسعة في الضواحي. وترتب على الارتفاع هذا مشكلات لا تخفى على أحد. والأبراج ترتقي إلى صرح. ويفترض بها أن تحمل صبغة الهوية الفريدة، وأن تكون شامخة فخورة. ويفترض أن تتناسب مع إرث مديني ومع جذوره. فالجذور هي الملائمة بين إرث المدينة وبنيتها والتكيف مع مناخها وجوّها وثقافتها المحلية وحمل صبغة مرحلة زمنية ما، وتوسل التكنولوجيا الجديدة «البيئية» التوجه. ويعود موقف الباريسيين السلبي من الأبراج إلى بعض النماذج التي أنشئت من غير مراعاة المكان وصفاته وصبغته وافتقرت إلى هدف. والنظرة السلبية إلى الأبراج ليست قصراً على باريس. ففي الدول النامية يتكاثر عدد المدن المحاصرة بالأبراج العالية المستنسخة. وهذا أمر مخيف. وبناء الأبراج يتعثر بالأزمات المالية والاقتصادية. وعدد كبير من الأبراج يبقى مشاريع على ورق. وثمة مشاريع تعدل تعديلات كثيرة لتقليص النفقات. وقلص علو برج نيويورك الزجاجي من 380 متراً إلى 320 متراً. وناطحة سحاب «دانتسو» في طوكيو أنشئت في ذروة الأزمة الاقتصادية. فألغي قسمها الأعلى، واضطر المهندسون إلى تعديل واجهتها مرتين. وأنظر بعين الرضى إلى عدد من الأبراج التي شيدتها: ومنها فندق في برشلونة غرست شجرات بلح في قلب برجه، وبرج آخر في المدينة نفسها يحاكي الثقافة الكاتلانية المحلية ويُبرز هويتها، وبرج في الدوحة تغطيه مشربيات لا تظهر من بعيد لكنها تبرز أمام الناظر من قرب كأنها دنتيلا متناسلة ومتداخلة مثل غصون الأشجار. فالأبراج يفترض أن تنتمي إلى تاريخ المكان وحضارته. وأشعر بالفرح حين أنجح في نقل روح ثقافة المكان إلى برج أشيّده. ولا يسع المرء مزاولة الهندسة المعمارية من غير أن تربطه مشاعر حب بالأشخاص الذين سينزلون في المباني. ولا يسعه كذلك مزاولتها إذا كره المكان الذي يشيّده. والتاريخ شاهد على أن المدن التي تبنى من غير مثل هذه المشاغل تولّد العنف. فالأمكنة العامة التي لا تستقطب الناس هي الأقل أمناً. وأمن الناس هو نواة تحديات ابتكار المدينة وصوغ وجهها. والمدينة هي حيز حرية مشرع على الاحتمالات. * معماري، عن «لوموند» الفرنسية، 29/10/2011، إعداد منال نحاس.