منذ 15 سنة تقريباً وأنا أتابع معارض الفنانة التشكيلية سعاد العطار التي تقام في العاصمة البريطانية، وفي كل مرة تدهشني في شغلها الحثيث على موروث خاص حملته معها من العراق يغوص في التاريخ العريق للمنطقة. انشغال سعاد العطار لا ينسى الفن وهو يدور حول الفكرة ولا ينسى التقنيات الحديثة وهو يستلهم فنون الماضي. متحف ليتون هاوس في لندن أقام لها أخيراً معرضاً خاصاً بالتعاون مع مؤسسة نور. لا يستغرب الداخل إلى المعرض عنوانه العريض (شجرة الحياة)، فاللوحة الكبيرة التي تصافحنا تحملنا إلى صورة متخيلة للجنة قرأنا عنها الكثير وكذلك فعلت ولا بد، هذه الفنانة الشرقية التي تقيم في بريطانيا منذ أواسط السبعينات. تقودني إلى لوحاتها لوحة لوحة، وكل واحدة بمتوسط حجم 180 - 150 لتشرح لي كيف اشتغلت عليها وكم قضت من الوقت في عملها وتبدو فخورة بها كأنها بناتها الفاتنات. «الجذور كما ترين هنا ليست جديدة عليّ، بدأت قبل خروجي من بغداد، وتعمّق الرمز طوال الفترة الماضية وراح يعكس تشبثي بجذوري على رغم طول سنوات الغربة». اللوحة المسماة (شجرة 1) تكاد تكون كلها جذور، كأن عروق الجذور «تعربشت» لتصير أغصاناً بعد ذلك. ألوانها حارة من درجات البني والأحمر لكن لا أخضر بينها ولا بشير للتفاؤل وسط الضبابية، سوى ضوء تتضح بقعته خلف الشجرة إلى جهة اليسار. في اللوحة المعنونة ب (شجرة 2) ينتشر الضوء أكثر في شكل واضح خصوصاً بغلبة اللون الأزرق النهاري الذي يشي بتباشير الصبح. أما اللوحة الثالثة التي تأخذ بعداً روحياً أكبر حتى من خلال اسمها (ميستيك تري)، فكأن الضباب انقشع قليلاً هنا وبانت بعض التفاصيل بعد أن تموضع الضوء بقوة على يمين الشجرة ويسارها وظهر قوس قزح وظهرت رموز أخرى غير الشجرة ترمز إلى التفاؤل، مثل الحصان الواقف مدهوشاً بالسكينة، والطيور والزهور، وجميعها لم تعط حجماً يشوش على الشجرة. في هذه المجموعة من اللوحات الثلاث يمكن تخيل وجوه وملامح بشرية بين الجذور والجذوع، تماماً كما تفعل الطبيعة في الأشجار المعمرة. «الشجرة أبعد من أن تكون مجرد شجرة»، تقول سعاد العطار وتمسك بأصابعي تمررها على قماش الكنفا كي تكون شاهدة على كلام لاحق: «في البداية أضع الألوان التي من بينها الحنة وأصباغ أخرى، ثم أبدأ بحك الطبقة الخارجية حتى يوحي السطح بعمق أكثر. لا ضربة فرشاة هنا. كأن الشجرة والكنفا شيء واحد». بدأ مشروع اللوحات الثلاث للشجرة عام 2007 واستمر حتى 2009، كانت خلالها تترك اللوحة وتعود إليها بين فترات عملها على لوحات أخرى شاركت فيها في معارض أخرى. «أخذت مني وقتاً طويلاً لوحات شجرة الحياة، فكل ملليمتر في الكنفا مشغول. كنت أترك اللوحة وأعود إليها لاحقاً، حتى أطمئن أنها انتهت تماماً». وكيف تعرفين أنها انتهت؟ أسألها فتجيب: «اللوحة تقول لي ماذا تريد. عندما أكف عن وضع خط هنا وبقعة لون هناك، تكون قد انتهت». تبدأ سعاد العطار العمل على اللوحة كما يعمل الكتّاب على نصوصهم فوق بياض الصفحة. تضع لها تخطيطاً بسيطاً ثم تشرح من خلال الكتابة ماذا تريد منها تماماً. تمنحها اسماً أولاً. ثم تحدد اللون وماذا سيعني لها لو أنها استخدمته هنا. «البداية هي أصعب مرحلة، وإن أخطأت فيها فستأخذ اللوحة منحى لم أتخيله لها وسأشعر بالإحباط، لكن إن سرت بصورة صحيحة فإن الخطوة تقودني إلى الأخرى، واللوحة تقودني إلى لوحة أخرى كما حصل مع لوحات الشجرة الثلاث». في المجموعة الأخرى داخل المعرض المعنونة باسم (نخلتي الذهبية)، تطورت الشجرة عند الفنانة نحو مزيد من التخصيص، أي النخلة، وهي أيضاً رمز للحياة في الحضارت القديمة. «النخلة حاضرة في تاريخ العراق منذ السومريين مروراً بالبابليين، ولكن الآشوريين بالذات استعانوا برسم أو حفر للنخلة على جميع منتجاتهم». النخلة في هذه المجموعة عند الفنانة العطار ذهبية بحيث تبدو وكأنها قطعة من ضوء يشع، خصوصاً أن الخلفية سوداء فتزيد من وهج اللون. كذلك فإن الفراغ أكبر في اللوحة حول النخلة قياساً إلى اللوحات السابقة الخاصة بالشجرة. أسفل النخلة وضعت في شكل هندسي أفقي تفاصيل صغيرة: نخل كثير بحجم صغير وعشب ورموز بغدادية تعود إلى القرن القرن الرابع الميلادي استخدمها الفنان يحيى الواسطي. أما الجذع، فبدا كأنه محمول على قطعة من زمان ومكان الأرض التي ألهمت الفنانة. هل للون الذهبي هدف تسويقي هنا؟ تعود سعاد العطار إلى الحضارات القديمة التي تلهمها، فتقول إن أهل تلك الحضارات استخدموا الذهب بشدة فظهر على ملابسهم، تيجانهم وحليهم وفي بعض أكسسوارت المكان. «أنا جزء من هذه الحضارة ولست خارجها». تقول وهي تنظر إلى ثلاثية النخل التي احتلت جداراً خاصاً في معرضها المقام في متحف ليتون هاوس. المجموعة التي بدأتها عام 2010 تحيي سعاد العطار النخلة العجفاء التي احترقت خلال الحروب والقمع في تاريخ العراق القريب. في مكان آخر هناك شجرة جديدة تظهر في هذا المعرض وهي شجرة البرتقال، ونحن هنا ندخل في مزيد من التحديد، بعد أن كانت الشجرة في ثلاثيتها الأولى رمزاً لكل الأشجار، كأنها أم الأشجار، نرى شجرة برتقال ليست جديدة على لوحات الفنانة المبكرة لكنها تتعامل معها بطاقة جديدة هنا. لا ننسى أنها أيضاً من أشجار العراق الموجودة في حديقة كل بيت، إلا أنها وعلى رغم هيمنتها الواضحة على اللوحة تدعمها نخلات بعيدة. وظهرت الطيور في شكل جلي ملونة حمراء نارية تذكر بضوء النهار وبمزيد من التفاؤل، الطيور تشبه ما طرزته الأمهات على ثيابنا في الطفولة. و (طيور الجنة) هي اسم هذه المجموعة كأن العودة بالذاكرة إلى خصوبة خيال الطفولة هو مكون من مكونات تلك الجنة المتخيلة. تقول سعاد العطار «في هذه المرحلة ابتعدت عن شجرة الحياة إلى مراحل اللوحة ذات التفاصيل الواضحة بالفرشاة الناعمة. طليت اللوحة بالألوان أولاً كي أغطي على اللون الأسود، ثم رحت ألوّن كل جزء وتفصيل صغير. إتمام رسم شجرة يأخذ مني أياماً أحياناً، كل ورقة رسمتها فعلت ذلك بمحبة». وعندما أقول لها إن اللوحة تمنحني شعوراً بالسكينة وبأني أحلم بأن أكون داخلها، تعلق بقولها: «هذه الجنة المتخيلة عشتها أنا لحظة رسم اللوحة. الشعور الذي أسكبه فيها عندما يصل إلى المتلقي فهذا يعني أن رسالتي وصلت له». تتعدد الأشجار التي تشتغل عليها الفنانة في هذا المعرض وتستحق الاستفاضة لولا محدودية المساحة، إلا أنني أريد أن أتوقف عند اللوحة التي تكلمت عنها في بداية المقالة، تلك التي تستقبل الداخل إلى المعرض كأنها مزهرية ضخمة، هذه من مجموعة اسمها (روح الشجرة السحرية)، ربما اسمها يناسبها تماماً فهي لا تكاد تخلو من نوع ورد أو زهر، وفي منتصفها يرتاح شكل إنساني يبدو مثل حورية الجنة. اللوحة خلفيتها سوداء أيضاً والتلوين عليها يأخذ وقتاً طويلاً «كان إنجازها امتحاناً لصبري وقد اشتغلتها بين مراحل أخرى. كل تفاصيل الحضارات التي ورثتها تركتها فيها». أنظر طويلاً وبمتعة بصرية غامرة إلى اللوحة التي رسمت كمنمنمات تشبه التطريز المشغول بتؤدة وشغف وتشبه حياكة سجادة تخلب الألباب، فأرى روحاً أنثوية فيها، إنها اللوحة التي لا تشتغلها إلا امرأة. فنانة امرأة اسمها سعاد العطار.