لم يكن سيرغي يعلم أن يومه ذاك سيكون الأخير. كانوا يجلسون على دكة قرب المدرسة، خمسة فتيان كلهم في الثانية عشرة من العمر، وكان ديما يقلب بين أصابعه ولاعة غاز من النوع الرخيص، عندما وجّه سؤالاً لرفاقه، نفض عنهم الملل فور سماعه: ما رأيكم بتسلية لن تنسوها أبداً؟ قال أحدهم: وماذا علينا أن نفعل؟ -لا شيء. جاء جواب ديما، قبل أن يضيف علينا فقط أن نشتري دزينة ولاعات مثل هذه، أو الأفضل إذا وجدنا علبة غاز كاملة، أعدكم بالحصول على «كيف» لن تنسوه أبداً. دلّت التحقيقات بعد ذلك إلى أن ديما كان جرب أن يشم الغاز قبل ذلك مرة واحدة في حياته، لكن حديثه عن المتعة التي سيحصلون عليها دفع رفاقه إلى حسم الموضوع سريعاً، وبعد دقائق معدودة كانوا حصلوا من كشك سجائر قريب على عبوتين كاملتين من غاز الولاعات، ولم يكن من الصعب عليهم تأمين كيس من البلاستيك شدد ديما على أهميته. بعد قليل كان زملاء الصف المدرسي يتناوبون على استنشاق الغاز عبر الكيس البلاستيكي، قالوا بعد ذلك إنهم في البداية شعروا بدوار بسيط، وتدريجياً بدأوا يفقدون الإحساس بأطرافهم قبل أن يغيبوا عن الوعي واحداً تلو الآخر من دون أن يشعروا بما يحصل حولهم تحت تأثير النشوة. استمرت طقوس الاستنشاق نحو ساعة واحدة، مرّ بعدها بعض الوقت قبل أن يستعيد أنطون وعيه، وكان أوّل من حاول الوقوف منهم، وقال إن قدماه كانتا ثقيلتين، وإنه شعر بصداع قوي، كما ظهرت علامات الوهن وبعض الغثيان على رفاقه الذين استعادوا وعيهم تباعاً، إلا سيرغي. كان وجهه شاحباً جداً، ويداه باردتين، وعندما حاول أنطون إيقاظه تمتم بكلمات لم يفهمها. دبّ الرعب في قلوب الفتية وقبل أن يغادروا المكان على عجل صاحوا بسيرغي أن عليه ألاّ ينام هنا وأن يذهب إلى بيته. لكن سيرغي لم يعد أبداً. عثرت سيدة، كانت تتجول مع كلبها عليه وهو في الرمق الأخير، وفشل الأطباء في إنقاذ حياته على رغم أنهم تمكنوا من استعادة نبض القلب في البداية، لكن الصبي مات فجر اليوم الثالث بعد الليلة المشؤومة. هي واحدة من عشرات القصص المحزنة التي انتهت بالطريقة ذاتها خلال الشهور الأخيرة وحدها، بعدما غدت عادة استنشاق الغاز للحصول على الكيف منتشرة بقوة في أوساط الأطفال والمراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و14 سنة. وفي مقابل مشكلة الإدمان على المخدرات التقليدية في أوساط الكبار تحوّل إقبال الصغار على الأنواع الرخيصة من المواد السامة والمخدرة إلى ظاهرة خطرة في روسيا خلال السنوات الأخيرة. في أواسط تسعينات القرن الماضي، كانت المادة الأكثر تداولاً بين الباحثين عن متعة الكيف بأرخص الأثمان هي أصناف معينة من المواد الصمغية، ما دفع الخبراء إلى رفع الصوت مطالبين الشركات المصنّعة بإدخال تعديل على تركيبة الغراء القوي المنتشر بشكل واسع في الأسواق، وعبر الاستعاضة عن المواد السامة ذات الرائحة النفّاذة بمواد أخرى لا تشكل خطراً على الحياة، وهو أمر وجد استجابة في السنوات الأولى من الألفية الثالثة، ما أفقد المدمنين على تلك المواد «متعة» رخيصة ومتاحة على شكل واسع في الأسواق. لكنهم سرعان ما وجدوا غايتهم في أصناف أخرى بينها البنزين والغاز المعدّ للولاعات وأنواع كثيرة من الأصباغ ومواد الدهان وغيرها من المواد الكيماوية التي مع تأثيرها القوي على الدماغ تؤثر مباشرة على عمل القلب والجهاز التنفسي. اللافت أن الظاهرة الرهيبة انتشرت على نحو واسع، في شكل جعل الخبراء يدقون أجراس الخطر، ولا يخفى أن في روسيا نحو أربعة ملايين طفل مشرّد بحسب تقديرات شبه رسمية، ولا يندر أن يشاهد المرء مجموعة من الأطفال يتسكعون حول باعة البسطات قرب محطات القطار، وبيد كل منهم زجاجة بيبسي بلاستيكية فارغة إلا من كمية بسيطة من سائل أصفر اللون في قاعها، ولا يحتاج الأمر لطول تدقيق حتى يكتشف المراقب أن كلاً منهم يحمل بعض البنزين لاستنشاقه بين الحين والآخر، لكن المصيبة الأكبر تمكن في أن الظاهرة تجاوزت هؤلاء، إلى ملايين من أطفال المدارس، وغدت تلك متعتهم التي تعجز الدولة عن مواجهتها بشكل صارم، لأن كل المواد السامة المستخدمة متوافرة في الأسواق ولا يمكن تحريم بيعها أو حتى فرض رقابة عليها. فمن سيمنع بيع علبة دهان لفتى، أو زجاجة من سائل مذيب للأصباغ؟ معضلة تشغل بال كثيرين بعدما ظهرت أخيراً أرقام مروعة عن أعداد ضحايا الظاهرة. يكفي القول إن ثلاثة من أصل عشرة فتيان يموتون بعد تجربتهم الأولى لاستنشاق الكيس السام، إحصائية رهيبة، يزيد من قسوتها أن السبعة الباقين لا يكمّلون في الغالب ربيعهم السادس عشر. وحتى مَن يتعود على ضبط نفسه خلال عملية الاستنشاق حتى لا يتناول جرعة قاتلة، يتحول بعد سنوات قليلة إلى شخص آخر تماماً، زائغ النظرات دوماً، يعاني من مشكلات حادة في الجهاز التنفسي والقلب، وأكثر من ذلك فإن الخبراء لاحظوا تأثيراً مباشراً على عمل الدماغ الذي يصاب تدريجياً بنوع من الشلل. ولا توجد في روسيا احصاءات دقيقة تظهر حجم انتشار المشكلة، على رغم أن غالبية المراكز المختصة تؤكد أن نصف الفتيان والفتيات في سن المراهقة جرّبوا ولو لمرة واحدة في حياتهم أنواعاً من المخدرات «الثقيلة»، ما يعني أن احتمالات أن يمرّ المراهق بتجربة لأصناف رخيصة من المواد السامة تبدو أعلى بكثير. وفي مقابل العجز الرسمي عن مواجهة الظاهرة الخطرة برزت دعوات أهلية لتنظيم حملات واسعة خصوصاً في المناطق الأكثر فقراً في مواجهة الخطر. وتلخص أمّ لخمسة أطفال الواقع قائلة: «علينا أن نتخلى قليلاً عن شعور اللامبالاة الذي يسيطر على حياتنا فكل طفل من هؤلاء يمكن أن يكون ابني».