إنّها رحلة بين الأودية والجبال، بين الأرض والسماء، بين الماضي والحاضر... هذه الرحلة الموغلة في الزمان والمكان، يدعونا إليها الكاتب اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر نجّار في روايته الصادرة حديثاً عن الدار الفرنسية «بلون». «قاديشا»، عنوان يختصر سلفاً مغامرة الرواية. مكانٌ تاريخي يستحضره الكاتب لارتباطه بعهدٍ مضى، بشخصياتٍ رحَلت، وبطائفة «مُهدّدة». المكان هنا هو إذاً شخصية زمانية. يتمسّك به نجّار ويسترجع عبره زماناً ولّى لخوفٍ ضمني من أن يفرّ كما فرّ منه زمانه ورجالاته. «قاديشا»، أو الوادي المُقدّس كما يحلو لموارنة لبنان تسميته، هو رمز ديانتهم ووطنهم والتصاقهم بهذه الأرض وصراعهم الطويل من أجل البقاء فيها. وليس مُستغرباً أن يُقدّم نجّار رواية تتناول حكاية مسيحيي لبنان في هذا الوقت الذي يعيش فيه مسيحيو الشرق عموماً خوفاً على أنفسهم من الغرق في اليمّ العربي الكبير. تنقسم الرواية إلى خمس محطّات. وهذا التقسيم اعتمده الكاتب حيلة فنية ناجحة في سبيل تكريس الرواية كمغامرة أو اكتشاف للمحبّة والروحانية في آثار مسيحيي الشرق. تبدأ الرواية من العقدة. قرار شخصي خطير يتخذه مدير أحد المصارف في وسط بيروت. سامي رحمة، الموظّف التائه بين أوراقه وأرقامه، يُقرّر فجأة أن ينسحب من الحياة التي استنزفت شبابه وحرَمَته من لحظات الصفاء والنقاء والروحانية. سامي رحمة، ابن بشري، قرّر في الخمسينات من عمره أن يتمرّد على الترقية التي حصل عليها باعتبارها مسؤولية إضافية على كمّ مسؤولياته الكثيرة. ارتأى التخلّي عن كلّ شيء مقابل إيجاد نفسه، فقدّم استقالته من المصرف وعاد إلى منزله ليُخبر زوجته بقرار انفصاله عنها أيضاً. أراد سامي رحمة أن يتحرّر من كلّ قيوده لتغدو رحلته أكثر حريّة. زواجه لم يكن قائماً على أساس الحبّ والعاطفة، بل ارتبط بزوجته «فيرا» اقتناعاً منه بأنها المرأة الأنسب لتكون سيّدة منزله وأمّ أطفاله الذين لم يُرزق بهم. أراد أن يمضي بسفره وهو متخفف من أيّ ثقل. لا يشغله همٌّ ولا غمّ. تأثّر رحمة بالقدّيس يوحنا المعمدان لكونه هجر كلّ شيء وتفرّغ للتنسّك في الصحراء. كان يزوره في طفولته باستمرار مع والدته في كنيسته في الأشرفية. أحبّه، وأحبّ أن يمشي على خطاه، إنما بطريقته الخاصة. فضّل أن يترك نفسه للطبيعة والتأمّل. فقصد مسقط رأسه وقلبه «بشرّي». هناك، نزل في بيت جدّه المهجور. ارتحال سامي رحمة لم يكن ذهاباً. إنّما هو في الحقيقة عودة. عودة إلى الذات والفطرة والجذور. ورجوعه إلى المكان الأوّل والطبيعة الأولى، استلزم عودته إلى حبّه الأوّل أيضاً. «فلورنس»، حبّه القديم، هي الفتاة الفرنسية التي التقاها لأوّل مرّة في كامبردج وعاشا معاً قصّة حبّ عاصفة طوال فترة دراسته في باريس. لم تغب فلورنس عن باله يوماً. غالباً ما أرسل إليها الرسائل الخطية والإلكترونية من دون إجابة. الأيّام لم تُقلّص عاطفته الجامحة. وعودة الحبيبة الأولى كانت ضرورية لاستكمال الرحلة السارية على عكس خطى الزمان. رسالة خاصة أرسلها سامي إلى فلورنس التي وجد صفحتها الخاصة على الفايسبوك بمجرّد كتابة اسمها. الحبيبة الضائعة أجابت. كانت في سورية تتابع مجريات الأحداث لكنّها لم تُطق شدة العنف والدموية، فهربت إلى شمال لبنان. اللقاء الأوّل بعد أكثر من عشرين عاماً حصل في مدينة الحرف «جبيل». أخبرها عن حياته وظروفه وقراره الجديد. وهي، أخبرته بأنّها قصدت سورية لتغطية الثورة كمراسلة صحافية إلاّ أنّها قرّرت ترك المهنة التي طالما حلمت بها لهول ما شاهدت وسمعت. كلاهما عَزف عن عمله وعن واجباته. ومعاً اتفقا أن يمضيا حياتهما في منطقة «الوادي المقدّس». الشوق إلى الطبيعة في رواية ألكسندر نجّار هذه يقترن بالشوق إلى الحريّة، إلى العفوية، إلى الروحانية والفطرة الإنسانية. وها هو نجّار يلتقي بأفكاره، مرّة أخرى، مع صديقه الأكبر «جبران» الذي أعاد الاعتبار إلى الطبيعة أو «الغاب» (بلغة المهجريين) من أجل إيجاد الذات، الذات الفردية والكونية. يُرافق سامي رحمة وحبيبته الفرنسية، المُرشد الأعلم بتاريخ منطقة «قاديشا» وعوالمها، «كينيدي». تنطلق مغامرة قاديشا من المحطّة الأولى في «قزحيا» ومن ثمّ تُكمل في «سيدة حوقا» و»قنّوبين: مغارة مارينا» مروراً ب «مغارة ليشا»، إلى أن تنتهي في المحطة الخامسة: «مار سركيس: بشرّي»، فتبدو الرحلة أشبه بحلم في قلب وطنٍ مغروسٍ كصخرة فردوسية بين البحر وصحارى الشرق. سامي رحمة هو الراوي الجوّاني للحكاية. إنّه لا يكتفي البتة بتسجيل مشاهداته وانطباعاته عن تلك المنطقة التي تُعزّز الحبّ والروحانيات. بل يعمد في كلّ محطة من المحطات الخمس إلى التوقّف عند أهمّ الشخصيات التي برزت فيها ولعبت دوراً محورياً في زمانها. فيُعظّم جماليات هذه الأرض المنتسبة إلى موارنة لبنان وخصائصها. «نحن الموارنة طالما كنّا ندافع عن الحريّات» (ص81)، فيستعيد دورهم في النضال ضدّ الحكم العثماني. يستذكر في «قزحيا» شخصية سركيس رزّي الذي أفلس من أجل إيجاد مطبعة تنشر النصوص الدينية. ويروي كيف حارب طويلاً وأبناء بلدته من أجل تمرير تلك المطبعة عبر البحر ومن ثمّ إدخالها على ظهر البغال إلى منطقته. وفي «سيدة حوقا» يقف عند محاربة الموارنة للمماليك الذين هُزموا على يد البطريرك لوقا بعدما اختبأ في مغارة وعمل على مقاومتهم أيّام حكم أشهر سلاطين المماليك المنصور سيف الدين قلاوون. كما يروي قصّة القديسة مارينا، التي تنكّرت بزيّ رجل بهدف دخول الدير وخدمته. وكذلك الناسك الفرنسي فرنسوا دو شاستوي الذي هجر عائلته في فرنسا وقدم إلى جبال لبنان للتنسّك في أديرة «وادي قنوبين» حيث يفوح عطر القداسة والخشوع. وينتهي أخيراً في بشرّي مع قصّة أعظم رجالاتها دون منازع: جبران خليل جبران. ولأنّ ألكسندر نجّار هو عاشق جبران أولاً، والمشرف على أعماله الكاملة الصادرة باللغة الفرنسية أيضاً، كان من الطبيعي أن يستفيض في الحديث عن هذه الشخصية التي يجلّها. كلامه عن جبران هو الكلام عن بشرّي نفسها. كلاهما يعكس الآخر. «ما إن اتخذت العربة الطريق المؤدية إلى بشرّي حتى شعرت بأنّ جبران وُلد من جديد. أدناها، ترى قاديشا مهيبة ومُشعّة. إلى هذا العالم ينتمي جبران. إلى هذه الأرض، وهذه المياه، وهذه الكهوف. ما الذي تُساويه بوسطن وأميركا كلّها مقارنةً بهذا الوادي المُقدّس؟» (ص204). في هذه المحطّة نقع على استعادة لحياة جبران. من طفولته في تلك المنطقة الجبلية المتكئة على أشجار الأرز والسنديان وصولاً إلى بوسطن وحكاية مجده ووفاته. في حياة جبران ثمّة استعادة لمرحلة مهمة عاشها المسيحيون في جبل لبنان. «سأفعل كما يفعل كلّ الموارنة في بلدنا. سأهاجر مع عائلتي إلى أميركا أو البرازيل»، هذا ما قالته أم جبران عندما قرّرت الانتقال إلى بوسطن، وبه اختصرت تاريخ بداية الهجرة في لبنان أثناء الحكم العثماني. ويختتم سامي رحمة وحبيبته فلورنس رحلتهما داخل دير «مار سركيس» الذي تحوّل إلى مدفن ومتحف جبران بعدما اشترته أخته مريانا بمال أخيها. الرواية المغروسة في أرض لبنان وجباله ووديانه كتبها نجّار بالفرنسية. والحبيبة الأولى في الرواية فرنسية. واختيار الجنسية هنا ليس اعتباطياً. وبين اسمها Florance «فلورنس» وكلمة France أو فرنسا، ثمّة سجع يزكّي تلك العلاقة بين «المرأة-المعشوقة» و «المكان-المعشوق». من هنا، يُمكن القارئ أن يستشفّ عبر علاقة سامي بفلورنس دلالة رمزية إلى العلاقة الحميمة التي طالما جمعت مسيحيي لبنان ب «الأم الحنون» فرنسا. وقد اعتمد الكاتب تداخلاً لغوياً جميلاً بين الفرنسية والعربية عبر اقتراض مفردات وأمثال شعبية من اللغة العامية المحكية في لبنان وإدراجها في الفرنسية بأحرفها اللاتينية مثل: «يا شباب» (23)، «خلاص» (ص 25)، «أحلى دوا شمّ الهوا» (ص39)، «عفاك» (ص61)، «سيّدنا» (110)، «يهدّوا راسن بالحيط» (ص111)، «مولاي» (ص112)، «أكيد» (ص202)... وغيرها. وعمد الكاتب الى تكثيف الحوارات داخل السرد، الأمر الذي أوجد جوّاً تفاعلياً أكبر بين القارئ والشخصيات. ولم يكتفِ الكاتب بذكر الأسماء التاريخية والأماكن الحقيقية، بل إنّه سعى إلى تسمية شخصيات مُعاصرة وآنية بأسمائها، مثل البطريرك مار نصرلله بطرس صفير والكاتبين جبور الدويهي ورشيد الضعيف، اللذين عرّفاه إلى «إهدن» المتكئة على كتف وادي قاديشا، المُفضي في البعيد على بحر بالغ الهدوء. «قاديشا» هي حكاية شغف بالأرض. من هذه الأرض غرف جبران إبداعه. وعنها أراد ألكسندر نجّار أن يكتب. وعلى رغم الإسهاب في وصف جمال هذه البقعة الأسطورية من أرض لبنان، إلاّ أنني لا أحسب أنّ هدف الكاتب كان فنياً جمالياً. اليوم مسيحيو العرّاق يُهجَّرون. وأقباط مصر يُقتلون. والمسيحيون في لبنان وسورية قلقون. ولا أحد يعلم انعكاسات «الربيع العربي» على مستقبل المسيحيين في الشرق. وضع المسيحيين في الشرق إذاً على شفا هاوية، على رغم الدعوات الى حمايتهم. وبتوقيت يُحسب له، أصدر ألكسندر نجّار رواية «قاديشا» المُهداة إليهم وإن ليس في شكلٍ سافر. في هذه الرواية الواقعة في 225 صفحة من القطع المتوسط، يتداخل التاريخ مع الحاضر والواقع مع الخيال لتقديم رسالة يُكرّس فيها الكاتب اللبناني، الناطق بالفرنسية، دور المسيحيين في الشرق وحقهم في الحياة بحرية وعزّة وكرامة، بعد الأدوار التاريخية والجوهرية التي لعبوها في بلدانهم العربية. وفي ظلّ الغموض الذي يلفّ واقع المسيحيين في الشرق، تفرض أسئلة عديدة نفسها في النهاية: هل المحنة التي بدأ يستشعرها المسيحي-العربي في أوطانه جاءت فعلاً نتيجة مضاعفات السياسات الأميركية في المنطقة؟ أم أنّها مخاطر طبيعية قد تواجهها الأقليّات في كلّ مكان؟ وما الذي ينتظر المسيحيين في الشرق بعد الثورات العربية التي قد تُغيّر وجه المنطقة؟