جموع بيضاء تبدأ اليوم من منى إلى عرفات ثم لمزدلفة فمنى ومكة بترتيب ديني ولأيام متتالية لشعيرة هي الأسمى، بيضاء باحراماتها، وإيمانها، ونواياها، وقلوبها، «جموع بيضاء» تتحد لغاتها وتندمج لهجاتها وتذوب كلماتها أمام نداء واحد عظيم «لبيك اللهم لبيك». حروف نقية، وأصوات تضع لهذا الركن صورة لا يشابهها صورة، ومشهداً مذهلاً يحق لمن هو فيه أن يفخر ويتباهى ويبكي، تتداخل مشاعر استثنائية في هذا الحضور المهيب والموقف الذي تنسكب معه الدموع والعبرات بتلقائية مدهشة من الألسن المتحدة والألوان التي لا تعرف إلا البياض والأعمار التي يضعها الجد والحماس وصفاء الأنفس عمراً واحداً متشابها. ينطلق - اليوم - «الغني» ليعرف قيمة أن يلتفت لمن هو أدنى منه، ويشاهد كيف يعيش هذا الأقل أجمل منه، ويمشي الفقير بالجوار فرحاً لأنه استطاع إلى الركن سبيلاً حين ضم الزائد عن حاجته إلى حصالة متهالكة وكان يطمئن نفسه حين تتوق إلى شيء مما فيها بأنها ستكون زاداً لما هو خير «الحج»، من اليوم يقف الصغير والكبير الأنثى والذكر في ملحمة ينتظرها العالم ويتأكد انه يملأنا البياض من الرأس حتى أخمص القدمين حين يلتقي الجمع الغفير مع «الرب» ويبتعد عن المقارنات والتمايز والإنصات لما يضمره من يريد أن تتقلص أجساد حضور هذا المشهد أو تتضاءل. يحلم البعيد والواقف خلف شاشة التلفاز أن ينضم لموكب روحاني يشعرك بقيمة الحياة ومعها قيمة الدين بعد أن تقف الجموع البيضاء وتلغي الحواجز وتتحدى الظروف، من اليوم يتحمل -مسلم المكان- ويصبر ويتحامل ويتجاسر لفطرية العلاقة وصدق اللقاء بين الخالق والرب ولعودة منتظرة بنقاء نفس وصفاء قلب، ولكل من تتوق نفسه لحج قادم تأملوا كل هذا البياض واعرفوا قيمة الحج المختلفة التي تنصهر فيها المسميات والمذاهب والخلافات وحالات المعيشة وتذهب لخط سير واحد لتنزل دموعاً ساخنة متشابهة لا يخجل «أبيض» من أن تطبع طريقها على الخدين. قيمة الركن الخامس تكمن في التعب والصبر والتحدي ومعايشة التساوي بين أفراد أمة فرقتهم الجغرافيا المترامية وجمعهم تاريخ ثابت ودين واحد، القيمة هي في لذة شربة ماء وقد أنهك التعب، وفي قطعة خبز حين يَنْهدُ حمل الجسد، هنا الأجر وكمال الحج، لكن أن تكون أولويات الركن متابعة التلفاز والتنويع في الغذاء والوصول بأقل قطرات عرق فهنا تجلس علامة التعجب! ويصبح تأثير الحدث لم يعد مجدياً والحاجة إلى تغيير القلب هي الأهم، من حق الحاج أن يؤدي فريضة الحج وفق منظورها الشرعي والبحث عن طعام نظيف ونوم مناسب حد الإمكان لا – الإزعاج-، فالحج يتساوى فيه الكل ولم يكن موضعاً للتمايز والتمييز واسألوا الأب والجد كيف كان الحج صعباً متعباً مبهجاً مفرحاً ومؤشراً على أن الأجر اكتمل والقلوب راضية، اسألوا وتأكدوا ولكن تمتعوا بكل لحظة من لحظات تدفق الجموع البيضاء وقربها وتمازجها ولا ينسى أحد أن «المملكة العربية السعودية» حملت أمانة هذا الركن وكانت على قدر هذه الأمانة وأكثر، ولسان الحاج القادم والمغادر - بلهجات ولغات منوعة - خير شاهد! [email protected] twitter | @ALIALQASSMI