ليس هناك من رحلة عظيمة في حياة الإنسان المسلم تشبه رحلته إلى الحج على الإطلاق، فقد ودع كل شيء في هذه الدنيا وتجرد من ملذات الحياة التي اعتادها، لباسه الفاخر، ومسكنه الفخم، ومطعمه ومشربه الهانئ الذي تعود عليه في بيته، وفارق أهله وأولاده وأصحابه، وفارق كل شيء، واستبدل كل هذا وذاك بإحرامين أبيضين من القماش، وقبِلَ بأن يتأقلم مع ظروف الحياة الجديدة وإن كانت مؤقتة، متناسيا كل حياة «الرفاه» التي كان يحياها قبل قدومه، في سبيل أن يقبل على ربه بالطاعات والعبادات ويؤدي نسك الحج وليس على لسانه إلا خير نداء يخرج من حناجر قد اكتست أجساد أصحابها بالبياض «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك لا شريك لك.. لبيك» وكل أقصى مناه أن يفوز مع من ودع زينة الدنيا، وأقبل على الآخرة (بحج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور) وبرغم أن المسلم خلال أيام الحج يعيش حياة مختلفة عن حياته قبلها يكتنفها المشقة والصعاب وإن كانت خفت عن أيام الحج في أزمنة مضت؛ إلا أن لهذه الأيام طعما إيمانيا منعشا للنفس، يزينها ذلك الشوق الذي ينمو مع الأيام لمنى وعرفات ومزدلفة والحرم وكل المشاعر المقدسة، شوق يملأ قلبه، وكلما مرت الأيام يزداد هذا الشوق «وفي داخله أمل يردده (قصدتك مضطراً وجئتك باكيا.. وحاشاك ربي أن ترد بكائياً) حتى تحين لحظة وداع تلك الأماكن الطاهرة، وتلك الوجوه المتوضئة، والصحبة الجميلة، وأيام الذكر للخالق الواحد العظيم، فتكون أقسى لحظات وداع في حياة المسلم وهو ينهي أيام حجه التي بدأها بشوق للقاء المشاعر المقدسة ما لبث أن نما مع الأيام، وبين لحظات الوداع الذي صاحبته لوعة، وجرت من أجله دموع سخينة، ودارت أسئلة كثيرة، هل لنا من عودة هنا ولقاء بعد عامنا هذا؟! ثم يشدو الشادي وهو يستقل راحلة العودة: وودعت الحجاج بيت إلهها.. وكلهم تجري من الحزن عيناه فللَّه كم باك وصاحب حسرة.. يود بأن الله كان توفاه فلو تشهد التوديع يوماً لبيته.. فإن فراق البيت مر وجدناه فما فرقة الأولاد والله إنه.. أمر وأدهى ذاك شيء خبرناه فمن لم يجرب ليس يعرف قدره.. فجرب تجد تصديق ما قد ذكرناه لقد صدعت أكبادنا وقلوبنا.. ما نحن من مر الفراق شربناه والله لولا أن نؤمل عودة.. إليه لذقنا الموت حين فجعناه