نبت الشعر على الألسن وهي تكرر القول بوجوب توحد المعارضة السورية لتشكيل إطار سياسي موحد للثورة التي قطعت شوطاً طويلاً من عمرها. الثوار في الداخل والجامعة العربية والمجتمع الدولي جميعاً والمعارضات نفسها يجمعون على ضرورة وحدة المعارضة. حتى النظام الآيل للسقوط لا يفوت فرصة ليقول إنه لا يجد محاوراً أمامه، لأن المعارضة مفتتة. هذا القول الأخير يشير إلى المستفيد الوحيد من تعدد المعارضات السورية، إلى درجة أننا بتنا أمام معادلة غريبة: إذا كان أفضل حليف للثورة هو النظام السوري الذي استبدل العنف المنفلت بالسياسة، فقام بما من شأن الفيل أن يفعله في دكان زجاجيات، فالحليف الأهم للنظام هو المعارضة السياسية. حقاً ما الذي بوسع قوى معارضة فعله سياسياً في مواجهة نظام سياسته الوحيدة هي العنف؟ ليس على هذا السؤال أن يدفعنا إلى الاطمئنان والرضى الزائف بدعوى أن خيارات المعارضة محدودة جداً في الشروط القائمة. لا تهتم هذه المقالة بهجاء المعارضة أو إيجاد المبررات لها، بقدر ما هي محاولة لفهم أسباب تفككها ورسوبها في امتحان ثورة الشعب. يمكن تقسيم هذه الأسباب إلى تنظيمية وإيديولوجية واجتماعية. لن أكرر القول إن نصف قرن من الاستبداد قد أنهك قوى المعارضة التقليدية، وصحَّرَ الحياة السياسية، وفتت المجتمع إلى عناصره الأولية الأهلية والفردية. فهذا ما يعرفه السوريون وغيرهم عبر العالم. وساهمت وحشية النظام الأمني - العائلي في مواجهة ثورة 15 آذار، في كشفه لمن كانوا على جهل بذلك. وأما الأسباب الإيديولوجية فهي أن معظم قوى المعارضة التقليدية كانت بمثابة «الجناح اليساري» لحزب البعث الحاكم. بكلمات أخرى: كانت تلك القوى تتنافس مع النظام على الأرضية الأيديولوجية ذاتها، فيغلبها دائماً بالضربة القاضية. وهذه نتيجة منطقية بالنظر إلى أن أهل القصر أقدر على بيع شعارات «التحرر الوطني» و «معاداة الامبريالية» و «الطبقات الشعبية» من أهل السجون والقبور. وحين انتقل الاعتراض إلى أرض «الإسلام» في عقد الثمانينات، تمكن حافظ الأسد من تحويل مدينة حماة إلى مقبرة جماعية ليشيِّد فوقها بنيان «التحالف القومي – الإسلامي»، فباتت آلاف الجوامع في طول البلاد وعرضها منابر للتسبيح بحمد الدكتاتور الحاجّ. وباتت دمشق محجاً لقوى إسلامية (سنية) من الدول العربية وجدت في نظام الأسد قائداً للممانعة. ناهيكم بالطبع عن الإسلام الشيعي (إيران وحزب الله) كحليف مذهبي مبدئي للنظام. حين تحدث بشار الأسد، في شباط (فبراير) 2011، إلى صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، واستبعد اندلاع ثورة في سورية على غرار ثورتي تونس ومصر، كان في ذهنه على الأرجح تطابق مواقف قوى المعارضة القومية واليسارية والإسلامية مع مواقف نظامه من احتلال العراق والمشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير والإساءة إلى الرسول في الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية. أما عامة الشعب فهو لا يحسب له حساباً أصلاً، لأنه ورثه عن أبيه قطيعاً خانعاً من العبيد يهمه سعر الخبز والمازوت، ويمكن عند الحاجة تجنيد شبان ساخطين منهم لتنفيذ عمليات انتحارية في دول الجوار كلبنان وإسرائيل والعراق. كان فتيان من حلب وغيرها من المدن والأرياف السورية يذهبون للموت في العراق ويعودون شهداء، في حين أنهم لا يجرأون على النظر شزراً في عيني شرطي قد يهينهم على الملأ. الأسباب الاجتماعية هي ما ينبغي التوقف عندها بصورة خاصة. فقد كشفت الثورة السورية عن عمق الشروخ العمودية التي كانت قائمة دائماً، ودفعت ببعضها قدماً إلى الأمام. وفي حين شكلت الثورة، بسلميتها وشعاراتها الوطنية الجامعة وامتدادها جغرافياً وزمنياً، فرصةً سانحة لبناء وطنية سورية جديدة على أنقاض «الوحدة الوطنية» الزائفة القائمة على تماهي الوطن بشخص الحاكم، تمكن النظام من تثمير ما زرعه طوال عقود من تفتيت المجتمع وتعميق الشروخ الأهلية وتخويف الأقليات من الإسلام ديناً واجتماعاً وسياسةً، ونجح بدفع البلاد إلى حافة الحرب الأهلية. نحن لا نتحدث عن تطابق بين التفتت الاجتماعي والصدوع العمودية من جهة، وتفكك قوى المعارضة السياسية من جهة ثانية. فالإيديولوجيات البعيدة بالقدر نفسه عن التحزبات العمودية داخل المجتمع، كفيلة بتمويه هذه الأخيرة. يمكننا اليوم الحديث عن انزياح إيديولوجي في المعارضة السياسية للنظام: من إشكاليات مرحلة التحرر الوطني (عقائد قومية ويسارية) إلى إشكاليات التحرر الاجتماعي (عقائد ديموقراطية وليبرالية). لكن هذا الانزياح لم ينجح في كشف الأسس الاجتماعية لتفتت المعارضات السورية. بالمقابل، فإن وقائع الثورة وقمعها الدموي هي ما كشف هذا الترابط غير المباشر بين الظاهرتين. وحدها الحالة الكردية تتمتع بشفافية التمثيل بين متن اجتماعي منفصل عن الهوية السورية والتعبير السياسي عنه. خلاصة القول، إن تفكك المعارضة السورية الذي يبدو بلا حل، هو تعبير «مجازي» عن تفكك اجتماعي أعمق، سيكون على الثورة مواجهته بعد إسقاط النظام. * كاتب سوري