قبل أقل من أسبوع على رحيله في السادس والعشرين من آب (أغسطس) الفائت، كنا معاً في إهدن، وكان يدخن السيجارة من أختها كعادته ويسترسل في الحديث عن «الهيكل» و«اليوتوبيا». فهمت «الهيكل» بكونه مسيرة بنيوية كان ينوي المضي في ركم مداميكها. لكنني لم استوعب «اليوتوبيا» تماماً حتى استعدنا معاً معرضه الفردي الأول في لندن عام 1993. يومها بدت لي لوحاته ورشة ترميم لعالم بعثرته الحرب ولعلها بعثرت ذاكرته أيضاً، فراح ماريو سابا يجمع أشلاء ذلك العالم، يؤالفها، يستنطقها، ويسائلها، كأنه يريد للوحته أن تكون شهادة على زمن كثر الاستشهاد فيه حتى بهتت رهبة الموت. في ذلك المعرض كانت المفاتيح والأقفال والعوارض الخشبية والمسامير النافرة والمزالج الصدئة وبعض أطراف الأثاث وغيرها من حطام القصف والمعارك ملمومة كأنما بيديّ ضرير، بل ملمومة في مواجهة باسلة لظلام رآه ماريو سابا زاحفاً على الشرق الأوسط برمته، وما انفك يتحدث عنه حتى الرمق الأخير. معاناة وجهد آنذاك لم تكن عبارة «يوتوبيا» واردة لديه، إلا أن فحواها تبلور مع مرور الوقت، وباتت عنواناً للتطهّر من معاناة جماعية عبر جهد فردي مبدع، فالهيكل الذي بناه ليؤوي فيه مدينته الفاضلة لم يكن سوى أرشيف لشظايا بلد تفجر طوال عقدين من الزمن، كان الفنان خلالهما ينمو ويكافح دفاعاً عن أحلامه وأحلام جيله، وعن مستقبلٍ معلق على أبواب المجهول. لم يضع ماريو سقفاً لهيكله، ولم يحدد موعداً لافتتاحه، بل شرع يبنيه لبنة لبنة، تارة في دراية ودقة، وطوراً بقسوة صارمة. هكذا بدأت لوحاته تتفلت من براويزها متحولة إلى أعمال متعددة الأساليب والأدوات، تخطت مفاهيم اللوحة التقليدية وصولاً إلى ال «الأنستيليشن» أو التركيب التشكيلي المكون من مواد متنوعة مما عرضه في بيروت وباريس وواشنطن وقريباً في لندن من جديد، ضمن تظاهرة وشيكة لنخبة من التشكيليين اللبنانيين. ماريو سابا من مواليد 1962 في طرابلس، عاصمة لبنان الشمالي. تأثر باكراً بهواية الرسم لدى والده وحصل عام 1980 على منحة لدراسة الهندسة في موسكو، إلا أنه انسحب من كلية الهندسة بعد ثلاث سنوات منحازاً إلى الأندرغراوند البوهيمي، حين كان الحراك الثقافي الروسي في أوجّ صخبه، وكانت المحترفات السرية محتشدة بفنانين تحرروا من فروض الواقعية الاشتراكية وواجباتها. مع هؤلاء العصاة قضى ماريو ثلاث سنوات أخرى، متعمقاً في المطالعات الأدبية والفلسفية ودراسة الرسم، لكن من دون أن يعني ذلك انه اكتفى تحصيلاً، فحين عاد إلى مسقط رأسه عام 1986 تسجل لدراسة علم النفس في الجامعة اللبنانية، واستمرّ في ولعه بالصورة على كل المستويات، رسماً ونحتاً وفوتوغراف. في تلك الفترة أسس ماريو لنفسه محترفاً أصبح مع الوقت معرضه الدائم، وفي الفترة عينها عمل في الإعلان التلفزيوني وتصميم أغلفة الكتب وتدريس الفن. عام 1995 أوكلت إليه الجامعة اليسوعية في بيروت إدارة فرع الفنون الجميلة. ثم أولته جامعة البلمند مسؤولية تصوير المعالم الكنسية والأديار في سوريا ولبنان وأفسحت له جامعتا الكسليك والمنار مجالات حرة في حقول التركيبات التشكيلية والفنون البصرية. يقول جان دورليان، مدير مكتب العلاقات العامة في البلمند: «في كل مراحله الفنية كان ماريو يبحث عن أشكال تتصدى لمعاناة الإنسان وتفككه الداخلي وعنفه المتجسد في كل ما يلمسه ويستعمله. وكان يتمتع بنظرة ثاقبة وبصر خارق وبصيرة تكشف الآفاق وتلتقط ترددات وجدانه الحساس». ويضيف دورليان الذي رافق تعاون ماريو في مراحل طاولت التدريس والسينوغرافيا لمسرحيات الجامعة: «لم يكن ماريو مجرد فنان تشكيلي بل صاحب رسالة في كل ما يقوم به. عندما فشل عدد من المصورين المحترفين في التقاط صور لحرم جامعتنا جعل ماريو من عدسته ريشة وأداة تكشف ما يحتضنه الحجر من جمال وهندسة، ونجح حيث فشلوا، لأنه يتمتع بحس مشهدي يتجاوز اللقطة نحو الكشف عن معناها الكمين». ويختم دورليان بقوله: «حياة ماريو كانت عملاً فنياَ متواصلاً يلعب على عنصر المفاجأة... ولعل آخر مفاجآته كانت موته المفاجئ. هذا الموت المبكر هو آخر أعماله الفنية». غابة من الاحتمالات للوهلة الأولى تثير تركيبات ماريو سابا نوعاً من الحماسة المنكفئة، فكأنك أمام احتضار وولادة مشتبكين مما يخرجك من مدار اللحظة الراهنة باتجاه أفق مفتوح على غابة من الاحتمالات. ولا شك في انه شعور مقلق يضعك أمام مفترقات متشعبة تستثير حواسك وأفكارك وتأملاتك بل يمكن أن تغمدك في مزيج من الحنين إلى الماضي والرغبة في معانقة المستقبل: كل الأسئلة مطروحة والأجوبة الموحى بها تحرضك على ربط العالم التقني، عالم الأدوات الصماء، الجافة، بعالم أكثر امتلاء باليدوي والطبيعي والهش. هنا الأدوات متخلصة من وظائفها، عارية، وخالية من معانيها الجاهزة، تستصرخ معاني جديدة ووظائف لا وجود لها إلا في المحلوم والمفترض، فالآفاق التي يفتحها ماريو سابا للعين والبصيرة ليست بالضرورة فسحات للنزهة أو للتأمل الهادئ، بل هي تحديات إبداعية ذات لغة متماسكة يعلو صخب تناقضاتها في أداءات تشكيلية مذهلة. جواباً عن أي سؤال حول عمله كان يأتي بمجموعة أسئلة، فكأن عمله خارج إرادته: «كيف انتقلت من اللوحة المركبة إلى التركيب الحر، من المسامير الصغيرة إلى القطع المعدنية الكبيرة؟» يقول: «ربما يكون ذلك من قبيل النضج؟ مزيد من عرض القوة والذكورية؟ ربما...» فإذا دفعت بالسؤال أبعد يجيب: «أبدأ بالعمل من شعور لا أستطيع تحديده. أحياناً أشعر باندفاع عدائي فألجأ إلى أدوات ووسائط مناسبة. أحياناً أخرى أبني على مهل، ثم أدمر ما بنيت. منطقياً لا أعرف ما يعني ذلك. بل أفهم عملي بعد فترة طويلة، بل بعد سنوات. أنظر إليه فيقول لي: أنت غريب، لكنه يقول أيضاً إنني مخلص وطبيعي... قرأت مرة كيف أن الفنان يشبه من يحاول أن يشرح الألوان ومعانيها لشخص كفيف. لكن إذا بذلنا جهداً مبالغاً للعثور على المعنى نخسر إمكانية الإحساس بالفن، الإحساس بصنعه والتمتع به يعني بالدرجة الأولى الاستسلام للنتيجة عوضاً عن تحري الأسباب». فيليب كينيكوت وصف في «واشنطن بوست» إحدى تركيبات ماريو سابا بأنها ضوضاء برّية من الأفكار الداكنة عن الحرب والإنسانية، ورأى أن الأسلاك والمعالم الملتوية والأدوات الكهربائية المحطمة أشبه بفطر نووي مزمع على التهام العالم بشهية كبرى لا يخفف من هولها سوى احتوائها على مؤشرات روحانية وطقسية ذات حيوية متصلة بالتاريخ، وهي من القوة بحيث تردنا إلى زمن بابل. وعلى شاطئ ميناء طرابلس نصب عنوانه «الإعصار» أنتجه ماريو سابا عام 1995 من سبعين قطعة كومبيوتر وأربعين كرسياً... جسم الكومبيوتر، أجشاؤه، أطراف الكراسي والأشرطة والأسلاك... كلها معقودة على دوامة ملتوية من الإسمنت الرمادي، ترتفع سبعة أمتار في وجه البحر، أطلق عليها ماريو صفة Conceptual structure واعتبرتها هيلين الخال برج بابل للتكنولوجيا «بناه مهووس بتظهير صورة العصر عبر أدواته ولغته ومفهوميته». وافقت بلدية الميناء على اقتراح قدمه أصدقاء ماريو سابا بإطلاق اسمه على ساحة نصب «الإعصار». وأخذ هؤلاء الأصدقاء على عاتقهم أرشفة كامل أعمال ماريو ومتابعة إشراكها في المعارض المقبلة وعلى رأسها معرض كبير تشرف على تنفيذه أمل طرابلسي وجوليانا بو حبيب في الأونيسكو قريباً. وتشمل المشاريع المستقبلية إطلاق جائزة سنوية باسمه تمنح لمبدع تجريبي جديد، وإنتاج كتاب تذكاري وفيلم توثيقي ومساحة ثقافية يتولى تنشيطها غسان، شقيقه، مع عدد من الرفاق ممن واكبوا ماريو في مسيرته الشخصية والفنية. كل الذين تحدثوا عن ماريو في أربعينه: الممثلة سهام ناصر، عميد جامعة المنار أحمد سامي منقارة، أمل طرابلسي عن جمعية الفنانين اللبنانيين، كاهن الرعية الأب سرّوج، المربّي شكري حصني، جان دورليان وغيرهم صبّت كلماتهم في اعتبار رحيل ماريو خسارة ثقافية لا يستهان بها، أما أنا فأعتقد أن ماريو غادرنا وهو في القمة، وليس للفنان موعد رحيل أفضل من هذا، وشكراً.