رسائل حب كتبها الفنان التشكيلي ماريو سابا إلى مدينته طرابلس، مغموسة بالشوق واللوعة والشغف والألم أحياناً ولكنها مليئة بذكريات الأمكنة الحلوة وزخارف العيش وحكايات الطفولة البريئة، الرسائل ليست مكتوبة بالحبر، بل بمهجة القلب وذائقة العين ولذة الاكتشاف، وهي ليست بوتقة ألوان على سطح لوحة ولا نصباً تذكارياً راسخاً في مكان ما، بل هي عبارة عن ألبوم ضخم من الصور الفوتوغرافية الملونة التي التقطها بعدسته لمعالم المدينة التي أحب، فجاءت لترسم بغتة نهاية رحلة الفنان الذي لم يتسن له الوقت لكي يقول لأحد وداعاً. إذ انه فارق الحياة قبيل شهر واحد من صدور الكتاب الذي أعدّه رئيس جامعة البلمند الوزير الأسبق الدكتور ايلي سالم بعنوان «طرابلس مدينة كل العصور»، عن منشورات جامعة البلمند (251 صفحة من القطع الكبير، طباعة فاخرة)، متضمناً مقدمة لرئيس الجامعة، ونصاً تاريخياً للدكتورة هند أديب باللغتين العربية والانكليزية، مترافقاً مع مجموعة من مئات الصور الوثائقية، التي كان لها الحضور الأبرز في التقاط روح المدينة بماضيها وحاضرها. يأتي هذا الكتاب بجمالياته البصرية كي يدق ناقوس الخطر، أمام خوف الزوال التدريجي والمتعمد للأبنية الأثرية لفرط ما تتعرض له آثار طرابلس في هذه الآونة من أعمال النهب والسرقة والتخريب، فضلاً عن هدم المنازل القديمة وتفكيك العقود الحجرية من بعض المعالم الأثرية بهدف بيعها، في مرحلة من التسيب والإهمال الرسميين وغياب أي سلطة للمديرية العامة للآثار ووزارة السياحة وبلدية طرابلس، وعدم اهتمام نواب طرابلس ووزرائها وقياداتها، لحماية آثار مدينتهم من السرقة التي تطاول ثرواتها الأثرية. فبالأمس سقط مبنى مسرح الإنجا التاريخي، الذي استضاف في ما مضى كبار نجوم الغناء والمسرح العربي، بعد تعرضه للتصدع لسنوات طويلة، كي يتحول إلى موقف للسيارات. وإزاء اللامبالاة والفقر والجشع ومطامع تجار الآثار، يتعاظم الخوف من خفوت وهج الهوية التراثية التي تتمتع بها العاصمة الثانية للبنان، كواحدة من أبرز العواصم العربية بآثارها المملوكية وكمتحف حي شاهد على تعاقب الحضارات، وتراجعها لمصلحة الصفقات التجارية التي تستبدل القديم بأبنية حديثة. يسد الكتاب ثغرة في المكتبة الثقافية والسياحية، لا سيما ان الكتب التي تناولت آثار مدينة طرابلس وتاريخها، لم تتناول الصورة الثقافية المتعددة الأوجه التي تميز مدينة طرابلس، ذلك وفق رأي ايلي سالم بنظرته الطوباوية، الذي طمح من خلال تحقيق فكرة إصدار الكتاب الى توجيه أكثر من تحية إلى العاصمة الثانية التي حضنت ذكريات طفولته وإيقاعات ثقافته المنفتحة على التراث المشرقي العربي. لذا جمع الكتاب ما بين رصانة البحث العلمي الجاد وحميمية النظرة الفنية الثاقبة في محاولة لإعطاء «صورة شاملة وصادقة عن مدينة تعيش حاضراً غنياً تتشابك فيه حقب تاريخية تعاقبت على مر الأزمان فتركت بصمات لم تمحها التقلبات ولا ألغتها صروف الحياة. إنها طرابلس، المدينة الحية أبداً، التي تعيش الحداثة بتناغم مع تراث لا تزال علاماته بارزة في هيئة المدينة وحية في ضمير أهلها. إنها من المدن العربية القليلة التي تجهر بانتمائها إلى التاريخ في الوقت نفسه التي تخطو فيه خطواتها الجريئة لتلتحق بما أنجزته المعاصرة من تغييرات طاولت أنماط الحياة على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية». الصور تتكلم بصدق عن روعة مآثر الماضي المتمثل بالأبنية التاريخية وما دخل عليها من ثقافة الحياة اليومية من عناصر هجينة، تتحدث عن الفقر في عيون المسنين وعن الأدراج المنسية في بيوت متهالكة على هواهنها، ونتحسس بهجة العيد في الأسواق بين ألوان التوابل والظلال العميقة للحوانيت بحوائطها الرمادية ومتاهات أسلاك الكهرباء في تشابكاتها بين الأبنية، ومنظر الباعة والمتجولين في الأحياء القديمة. من الداخل ندلف إلى الخارج كي نتعرف إلى سحر الأمكنة وما تضج به من حنين، هكذا نستطيع أن نتصفح المعالم الأثرية التي يقطنها الناس ويعيشون في خباياها قصصاً أزهرت في صور أجدادهم. الحياة الشعبية يستعرض الكتاب في فصوله تلك الحياة الشعبية الممزوجة بالعراقة التاريخية على مر العصور، ويسلط الضوء على مشهد المدينة المنفتحة على المدى الأزرق للبحر المتوسط ومعالم الحياة المدينية والمهنية والثقافية، وذلك من خلال تقديم لمحة شاملة عن: القلاع – دور العبادة (المساجد والكنائس) - الأسواق والخانات والحمامات – الأزقة والأدراج – الأحياء: ساحاتها وحدائقها ومنازلها – الأبواب والنوافذ – الحرف والمهن - المقاهي – وجوه أهل المدينة وسماتهم - المراكز الثقافية والحرم الجامعي – الميناء: واجهة طرابلس البحرية – مشاهد من إيقاعات النسيج المديني المعماري (التراثي والحديث والمعاصر)، إضافة إلى لقطات من أزمنة المهرجانات. يشكل هذا الكتاب مدخلاً للتعرف ليس إلى تاريخ المدينة وآثارها فحسب بل إلى أحلام أهلها وشغفهم بالاندماج بروح الأمكنة كشغفهم بالحياة نفسها. فطرابلس كما وصفها الرحالة العرب «دار سلام ومدينة العلم والعلماء» لا تزال تلعب هذا الدور بوجوه مختلفة في أيامنا الراهنة بعد انتشار الجامعات في ربوعها ونشوء مراكز ثقافية جديدة ووصول الكثير من أبنائها إلى الشهرة في المجالات الفكرية والفنية. سعت هند أديب في كتابتها الذكية والمقتضبة إلى مواكبة لقطات الفنان ماريو سابا في بلورة فكرة ايلي سالم، حيال صوغ السجل الذهبي للمدينة الذي يتناول رواسخ التقاليد الأصيلة للعيش المشترك بين مختلف الطوائف وسمات الطيبة والبساطة والتواضع في النسيج الاجتماعي للمدينة، فضلاً عن شهرتها الإبداعية المميزة في مختلف المهن والصناعات والحرف التراثية وإطلالاتها على تطوير المعالم التربوية من خلال استعادة دورها الحضاري عبر المراكز الثقافية والمدارس والجامعات. والبارز في الكتاب يتجسد من خلال تحقيق الإطلالة على الداخل، أي على عمق النسيج المديني الاجتماعي وعلى موتيفات الجمالية الهندسية للعمارة التراثية التي لا تزال حاضرة على رغم تقلبات الأزمان ووطأة الحرمان والإهمال. فقد قدم ماريو سابا خلال جولات عدسته في قلب المدينة صورة بليغة عن سمات الوجوه ومعالم واجهات الأبنية القديمة والأسواق والأزقة والأدراج والحدائق والساحات والمقاهي وأحلام الواجهة البحرية. السياحة في مدينة التاريخ قد تشكل الجذب الحقيقي لمادة الكتاب الذي أهمل جانباً من أهم الجوانب الإنسانية التي غابت عن فصوله، ألا وهو الأعمال الفكرية والأدبية والفنون التشكيلية، التي لطالما ترسخت في وجدان المدينة، وكان من شأنها أن تعطي في شكل أفضل الصورة الثقافية التي ينبغي على المؤسسات التربوية كجامعة البلمند تناولها، كي تزيل وصمة التجاهل الذي تعاني منه مدينة طرابلس منذ عقود.