فجيعة السعوديين برحيل «سلطان الخير» ليست عادية أبداً.. فهذا الهرم السعودي العظيم الذي يوارى جثمانه الثرى اليوم لم يكن قائداً سياسياً أو عسكرياً فقط في الذهنية الجمعية السعودية، بل تجاوز كل ما يمكن أن يؤطر علاقات القادة الكبار بشعوبهم وصورة الرمز السياسي إلى صورة الأب الحاني والمسارع بعاطفته الأبوية النادرة إلى بذل كل ما فيه خدمة الأبناء.. وعندما أصف عاطفة «سلطان الخير» الأبوية ب«النادرة» فذلك لأن أكثر الآباء حناناً على أبنائه في هذا العالم لايمكنه أن يمتلك عاطفة تستوعب ملايين البشر، ولهذا فإن أي حال استغراب لدى بعض أفراد الشعوب الأخرى من بكاء وحرقة السعوديين على أبي خالد رحمه الله ناشئة عن عدم القدرة على تصور أو استيعاب مفهوم «الأب الأكبر»، الذي يتقاطع بشكل نسبي مع مفهوم «ولي الأمر» في النسق الإسلامي لكنه يتجاوزه «عاطفياً» وهذا الوضع من المستحيل أن يشعر به أو يفهمه من لم يقرأ سيرة هذا العظيم الراحل. اشتهر «سلطان الخير» بخصال لم تجتمع، ومن الصعب أن تجتمع في غيره، فمجرد اقتران اسمه بمفردة «الخير» أمر يفتح المجال لسرد مئات إن لم يكن آلاف المواقف التي سجلها في حياته لإغاثة الجوعى، وعتق الرقاب وعلاج المرضى على نفقته الخاصة في أقطار العالم كافة.. كما أن لمساته الحانية على «اليتامى» خلفت في صدورهم فقداً عظيماً عقب رحيله إلى «رازق اليتامى».. لقد رحل بجسده لكن صورته وأفعاله باقية خالدة في قلوب وأذهان السعوديين وغيرهم، عصية على المحو والنسيان. الإنسان سلطان بن عبدالعزيز لم يكن فقط أباً حانياً مبتسماً.. فقد سطر في حياته صفات معاكسة سجلها له التاريخ في مقامات مختلفة جسّد فيها ما يوصف بالعامية ب«سم العدو» ومازالت صورته تلمع في أذهان أعداء بلاده وهو يقود الجيوش، ويتجول بين أفرادها كفرد منهم لا مسؤول أعلى.. يحادثهم، ويستمع إليهم وفي أحيان كثيرة يشاركهم تفاصيل حياتهم الصغيرة، كالأكل معهم على مائدة واحدة من دون حواجز آمناً بين أبنائه المقاتلين في سبيل رفع راية التوحيد وصد أي عدوان آثم على هذه البلاد.. وهذا ما شهدته شخصياً، وأنا في أولى سنوات مراهقتي عندما اصطحبني والدي رحمه الله الذي كان ضابطاً في قوات الدفاع الجوي لمأدبة عشاء شرفها سلطان الخير في مدينة الملك خالد العسكرية التي كانت مسرح انطلاق العمليات ضد جيش الاحتلال العراقي للكويت مطلع التسعينات الميلادية.. لا اتذكر تحديداً الآن إن كانت زيارة سلطان الخير سبقت أحداث الحرب أو تلتها لكنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها «أبا خالد» رحمه الله على الطبيعة، ومازالت صورته راسخة في ذهني وأنا أجلس على بعد أمتار قليلة منه أتابع بحب وذهول ابتساماته ولفتاته، وملاطفته للحضور ثم جلوسه مع الجميع الكبير والصغير، الضابط والجندي لتناول الطعام في مشهد يصور مدى بساطته وتواضعه وحنكته الإدارية، التي أكسبته قلوب كل العاملين تحت امرته من منسوبي وزارة الدفاع الذين لم يكن يخاطبهم إلا بكلمة «إخواني» قبل أن يلقي كلماته التي تبث فيهم روح التحدي والإيمان، حتى وهم في أصعب الظروف. عاش سلطان الخير «عظيماً ونادراً»، ورحل كذلك عن هذه الدنيا محاطاً بدعوات ومحبة ملايين البشر في بقاع المعمورة كافة، ولعل المفارقة المعبرة أن رحيل هذا القائد النادر عن دنيانا ومصابنا الجلل به يأتيان في الوقت نفسه، الذي يُسحل فيه زعيم عربي، ويحاكم آخر، وتهتف الشعوب ضد غيرهما، ليعيد تاريخ العرب التأكيد على «أن محبة الشعوب كنز لا يفوز به إلا من أحبه رب الشعوب». [email protected] twitter | @Hani_AlDhahiry