يتفرّد هذا الضيف تماماً، بين صفوف المدعوّين إلى «المؤتمر العاشر للأطراف في اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة التصحّر»، وهو حدث ضخم استضافته كوريا الجنوبية أخيراً في حضور أكثر من ستة آلاف مشارك. إنه مُزارِع بسيط قادم من قرية أفريقية منسيّة يحمل في جعبته فكرة بسيطة وتجربة مميزة لمكافحة التصحّر. إذ قلبت رؤيته البيئية الجريئة والمبتكرة والبسيطة، الأرض القاحلة غابة خضراء، بل ووطّنت الأهالي بعد الهجرة. أبهرت هذه التجربة العالم وضيوف المؤتمر. وانتزعت اعترافاً من خبراء دوليين بأن هذا المُزارِع الأميّ نجح حيث فشلت الوكالات الدولية نفسها. قصة كفاح ياكوبا صوادوغو لإعادة الحياة إلى أرض شبه ميتة في إحدى قرى بوركينافاسو في منطقة الساحل غرب أفريقيا، هي قصة نجاح تطوير التقنيات الزراعية التقليدية البسيطة على أيدي السكان المحليين. لكنها أيضاً قصة نجاح مرير قادها «الرجل الذي أوقف الصحراء» على جبهتين: قسوة الطبيعة ورفض الأهالي. وما آن للمحارب أن يأخذ استراحة بعد. إذ يهدد زحف التمدن حاضراً، حلمه الأخضر. جاءته ضربة موجعة أخيرة من الخصم الأقوى: سلطات البلد نفسه، على رغم كونه عضواً في اتفاقية دولية لمكافحة التصحّر! هل إن التصحّر هو قدر الدول النامية الأكثر فقراً؟ «أسلوب الزراعة التقليدي المستخدم في قريتي يسمح لمياه الأمطار بأن تضيع بسهولة، تاركة المحاصيل تجف في غضون فترة قصيرة من الزمن. لهذا السبب فكرت في تقنية من شأنها مواجهة هذه المشكلة»، يقول ياكوبا. لكن المشكلة لم تكن مع الأرض فحسب. فوقتها، ساد اعتقاد بين أهل قريته بأن مسَاً من الجنون أصاب ياكوبا. فقد كان يحرث الأرض في غير موسم الحرث. «مهما كان جنونه، فقد ثبت أنه جنون يلائم الأهالي»، يعلق مسؤول حكومي رفيع المستوى في فيلم وثائقي عن ياكوبا حمل اسم «الرجل الذي أوقف الصحراء». بئر الجفاف يشبه انتحاراً قبل عشرين عاماً، لم يتوقف الأمر عند نعته بالجنون. إذ قاطعه الأهالي. وعارضوا مبادرته. وحاولوا بشتى الطرق ثنيه عن الخروج عن عادات المُزارِعين المحليين. قال له أحد شيوخ القرية: «لا فرق بين رجل يحفر آباراً في الموسم الجاف وآخر يشنق نفسه». وذات يوم، فيما البذور تؤتي زرعها والأرض اليابسة تخضر، أحرق مجهولون محصوله، ونثروا جهد سنوات من الكفاح المرير رماداً. يستخدم المُزارِعون الأفارقة تقنية «زاي» Zai في الموسم المطير. وحرث الأرض عندهم يجري بطريقة مختلفة. فبدل قلب التراب وشقّ ممرات فيها، يحفرون حقولاً من آبار صغيرة متقاربة جداً بعمق 20 سنتيمتراً وعرض 30 سنتيمتراً. ثم يملأونها بالسماد. استخدم ياكوبا أسلوب «زاي» بالطريقة نفسها تقريباً، لكنه نفّذه في توقيت مغاير. وسّع ياكوبا الثقوب وزاد عمقها، كي تستفيد من مياه المطر الشحيحة. وأضاف إليها بعض الأفكار المبتكرة، إذ جعل فيها سماداً جمعه مما تسقط عليه يداه من بقايا بشرية ونباتية وحيوانية مثل روث الماشية والأوراق اليابسة ورماد المواقد. ملأ الحُفر بهذه البقايا. وأضاف إليها قليلا من بذور الدُخن أو الذرة البيضاء. فكّر ياكوبا في أن المطر شحيح لا تستفيد الأرض منه. وانطلاقاً من ملاحظته القوية لبيئته، ابتكر فكرتين للاستثمار فيها. فأنشأ حواجز بواسطة حجارة صغيرة متلاصقة، أحاط بها مجموعات الآبار في الحقل لحصر المياه فيه. ولكن الفكرة الثانية التي أذهلت العلماء أنفسهم هي توطينه النمل الأبيض في الحُفَر. وبانبهار، وصفته عالمة أحياء غربية بأنه «عالِم فذّ... إنه يلاحظ ويحلل ويحاول ويواصل المحاولة بلا توقف». يفكك النمل الأبيض التراب المتصلّب ليبني ممالكه. فيخفّف من تكلّس التربة. ويسمح بتسرب مياه المطر، ما يؤمّن انتعاش البذور وتهيئتها لنمو سليم. إنها طريقة طبيعية لتأهيل التربة وإحيائها، من دون تكلفة. «إذا لم نأكل لن نتقدم. وإذا لم نعتن بالأرض، فسنتركها ونذهب إلى المجهول». تلك كانت كلمات ياكوبا. لقد أدرك ياكوبا أن الأمن الغذائي هو أساس الاستقرار والحضارة البشرية. وفهم ما هو أبعد من ذلك بكثير: الحل يوجد تماماً حيث توجد المشكلة، وأنه لا يكفي توفير الأكل في مواسم القحط، بل يجب تأمين حياة الأرض. كان قلقاً كثيراً إذ رأى أن أراضي قريته تتحول بسرعة صحراء قاحلة. وأدرك أن زراعة الأشجار تحفظ الأراضي من التدهور، وتعيد تغذية المياه الجوفية. نفاذ بصيرة وقوة إرادة قهرا الأمية والفقر والقحط، كما تحدّيا عادات المجتمع. وتولّدت منهما غابة خضراء كثيفة متنوعة النباتات، تنبثق من عمق أرض متصحّرة بمساحة 15 هكتاراً. «لم تعرف هذه المنطقة غابة مثل هذه من قبل»، وفق تأكيد مدير الفيلم الوثائقي «الرجل الذي أوقف الصحراء». حاضراً، يؤمن ياكوبا العيش الكريم لعائلته وقريته. ويزوّد سوقها بالبذور الجيدة. ويستخدم بعض أنواع الأشجار في غابته في صناعة الأدوية. عقاب المدينة قصة نجاح الصحراء التي اخضرّت، يتهدّدها اليوم توسّع مدينة أوهيغويا المجاورة، في شمال البلاد. انتزعت سلطات بوركينافاسو الأراض غير المملوكة من المُزارِعين باعتبار أنها تدخل في المجال الحضري. ووفق مخطط الإسكان الجديد، من المرتقف اجتثاث الغابة الوحيدة في المنطقة وتقسيم الضيعة، بهدف بناء مساكن. بموجب هذا التطوّر، قد يحصل ياكوبا وأفراد عائلته الكبيرة على منازل متفرقة. وإذا أراد أن يحتفظ بالغابة فعليه شراؤها بمبلغ أسطوري هو 100 ألف يورو، لأن خضرتها وثمارها رفعت من قيمتها! على نحو ما، عوقب ياكوبا على جهده الخلّاق وإنقاذه القرية من الجوع والتصحّر، من الطرف الذي كان أولى به رعاية مشروعه وتوسيعه لمكافحة التصحّر، وهي دولة بوركينافاسو. والمفارقة أن هذه الدولة عضو في اتفاقية مكافحة التصحّر، لكن عملية صوغ مخططها الوطني لهذا الغرض، ما زالت متعثّرة ومتخبّطة. هذا الرجل الستيني الذي أوقف فعلاً زحف التصحّر في قريته «غورغا» يجول العالم حاضراً ويلتقي كبار الساسة والخبراء، ويأتي إلى ضيعته وغابته علماء الطبيعة وخبراء البيئة ليدرسوا تجربته. قدّم عرضاً عن تجربته أخيراً في واشنطن. وأُخذت تجربته بالاعتبار ضمن خطة «المبادرة العالمية للأمن الغذائي»، بل صارت من أولويات السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما. وتسعى هذه الإدارة لمعالجة قضايا الأمن الغذائي، وتحسين البنية التحتية الزراعية، ومكافحة سوء التغذية وتعزيز المبادرات المحلية في البلدان النامية. كذلك حصل الفيلم الوثائقي «الرجل الذي أوقف الصحراء» على جوائز دولية تقديراً لاهتمامه بعرض حل محلي بسيط ومبتكر لإشكالية التصحّر العويصة التي تهدد بليوني نسمة بتبعاتها اجتماعياً واقتصادياً وبيئياً وسياسياً. ومكنت استضافة ياكوبا وفريق الفيلم الذي أُنتج في 2010 خلال المؤتمر العاشر للأطراف في كوريا الجنوبية، من تمرير رسالة قوية عن دور السكان المحليين في إعادة تخضير أفريقيا. ووَجّه لوك غناكادجا الأمين العام لاتفاقية مكافحة التصحّر الأممية والوزير السابق للبيئة في دولة بنين، دعوة واضحة إلى الحكومات المحلية لتشجيع الممارسات الجيدة أين ما وجدت. فقد ساهم غرس الأشجار من قبل المُزارِعين واستخدام الأسمدة الزراعية المحلية في تحسين أكثر من ستة ملايين هكتار في أنحاء أفريقيا. هل تلقى هذه الدعوة آذاناً حكومية صاغية؟ بتواضع شديد، نزل ياكوبا من المنصة بعد انتهاء عرض «الرجل الذي أوقف الصحراء» كما يجدر بالأبطال الحقيقيين، فالتراب يعلم الإنسان معنى التواضع الحقيقي، بينما وقف له الحضور إعجاباً وتشجيعاً وسط سيل من التصفيقات الحارة، تتخاطفه طلبات التقاط الصور التذكارية معه وله. كان ممتناً، لكن نظراته المستغرقة في مأزق إنقاذ غابته أطفأت بريق عينيه في لحظات مجد مستحقة. معركته لم تنتهِ بعد، والخصم يبدو له أقوى من الطبيعة التي روضها. لكنْ قد يساهم إشعاع تجربته في توعية سلطات بلده بالخسارة المهولة التي توشك أن تقترفها في حق مستقبل أخضر لأبنائها.