لم تقتصر سخونة الخريف الروسي هذا العام على الانطلاق المحموم لمعركة انتحابات البرلمان، وهو انطلاق ترافق مع شعور بالصدمة عند كثيرين بعد إعلان طرفي «ثنائي الحكم» عزمهما تبادل الأدوار في الربيع المقبل، ما أغضب فئات واسعة من الروس. فالعنصر الثاني الذي أثار سجالات حادة ودفع إلى توقع زيادة حدة التوتر في المجتمع، تمثل في انطلاق حملة غير مسبوقة حملت شعار «لا تطعموا القوقاز». والحملة التي بدأت مطلع تشرين الأول (أكتوبر) الجاري تقف خلفها تشكيلات شبه حزبية ومنظمات تضم قوميين متشددين يعتزمون تصعيد نشاطهم طوال فصل الخريف بهدف إيصال الرسالة إلى السلطة وحملها على الانصياع لما وصف بأنه «إرادة الوطنيين الروس» الداعين إلى تقليص الموازنات المخصصة للأقاليم القوقازية، التي تصدّر «الإرهاب والمشكلات بكل أنواعها إلى روسيا». وتعكس الشعارات التي رفعها القائمون على الحملة امتعاضاً بسبب ما يصفونه ب «إنفاق زائد» على منطقة القوقاز، لكنها لا تخفي أجندة سياسية واضحة المعالم. فهم يطالبون بإعلان روسيا «دولة روسية القومية» بدلاً من وضعها الحالي كدولة متعددة القوميات. وعلى رغم أن أصحاب الحملة تحدثوا عن «ضمان المساواة في الواجبات والحقوق للشعوب الأخرى التي تقطن روسيا»، لكنهم طالبوا بتقديم امتيازات ل «الروس» والمقصود أبناء العرق السلافي تحديداً، في توجيه بات يحظى بدعم أوسع شعبياً للتعامل مع القوميات الأخرى كأقليات لها حقوق وعليها واجبات معينة. وينطلق المتشددون القوميون من أن جزءاً كبيراً من الموازنة الفيديرالية الروسية يخصص للجمهوريات الذاتية الحكم في منطقة القوقاز، في مقابل إهمال أقاليم ومناطق أخرى تقطنها غالبية سكانية روسية القومية. وحذّر خبراء من تصاعد المواجهات التي قد تنشب على أساس عرقي خلال الشهور المقبلة، خصوصاً أن الحملة جاءت في وقت بلغت حدة الاحتقان فيه أوجها، إذ شهدت البلاد منذ مطلع العام الحالي مواجهات عرقية فجرها مقتل مشجع لفريق نادي سبارتاك موسكو لكرة القدم، أثناء مشاجرة بين روس وقوقازيين. وأصدرت محكمة روسية قبل أيام أحكاماً قاسية على متهمين بقتل الشاب اعتبرها البعض مقصودة في شدتها لامتصاص غضب قطاعات واسعة من فئات الشباب الروسي. ودفعت زيادة سخونة الحدث الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف إلى التدخل بقوة وحذّر قبل يومين، من أن من يقف خلف الحملات على القوقازيين «إما غير عاقل أو متطرف». اللافت أن هذا التصريح جاء خلال زيارة مدفيديف إلى جامعة موسكو الحكومية ولقائه مع طلابها، وهي زيارة لم تخلُ أيضاً من منغصات للرئيس الذي هوت شعبيته بقوة بعد إعلان نية تبادل المقاعد مع رئيس الوزراء فلاديمير بوتين. إذ واجه طلاب غاضبون في كلية الصحافة الرئيس بلافتات تنتقده بقوة ما دفع الأمن إلى التدخل واحتجاز عدد منهم. لكن المسألة لم تنته عند هذا الحد إذ قرر طلاب الكلية أمس، بفعالية لم تخل من مغزى سياسي مباشر، تخصيص الأحد «يوماً تطوعياً لتنظيف الكلية بعد زيارة الرئيس». وعلى رغم عدم وجود ترابط مباشر بين الزيارة وتداعياتها وملف تصاعد النشاط القومي المتطرف، تعكس التطورات الأخيرة مدى الاستياء الزائد في أوساط الشباب على السلطة. ويشير خبراء إلى أن تصاعد موجات العنف العرقي والحملات التحريضية على مواطني القوقاز وآسيا الوسطى تزامن في مرات عدة مع التحضير لحملات انتخابية في البلاد. ويتهم حقوقيون سياسيين باللعب على وتر المشاعر القومية لكسب أصوات الناخبين الشباب. ويكفي كمثال أن رئيس حزب «رودينا» (الوطن) ديمتري روغوزين الذي يشغل حالياً منصب مندوب روسيا الدائم لدى الحلف الأطلسي، قرر العودة إلى ممارسة السياسة تحضيراً لانتخابات مجلس الدوما المقررة في مطلع كانون الأول (ديسمبر) المقبل من بوابة الهجوم على مسلمي روسيا، إذ اعتبر تجمعهم للصلاة في أيام الجمعة أو الأعياد الإسلامية «عرض عضلات». علماً أن آلاف المصلين من مسلمي موسكو والمقيمين فيها من أبناء القوقاز أو جمهوريات آسيا الوسطى يضطرون لأداء فريضتهم أيام الجمعة في الساحات المحيطة بالمساجد بسبب ضيق الأمكنة عليهم. وتوجد في موسكو خمسة مساجد فقط تخدم حوالى مليوني مسلم يقطنون العاصمة وفق الأرقام الرسمية المعلنة. وشكل هذا الموضوع واحدة من المسائل التي أثيرت بقوة أخيراً، واستخدمتها التجمعات القومية المتطرفة للهجوم على المسلمين الذين «يؤرقون راحة سكان أحياء موسكو في أيام الجمعة».