لم تمر تهديدات زعيم «إمارة القوقاز» دوكو أوماروف للشعب الروسي بعام مليء «بالدموع والآلام» من دون أن ترمي بظلال قاسية على كثيرين في منطقة شمال القوقاز وخصوصاً في جمهورية داغستان. صحيح أن الوعيد الذي أطلق في بداية العام وبعد مرور وقت قصير على تفجير مطار «دوموديدوفا» لم تصب نيرانه المدن والقرى الروسية كما هدد صاحبه، وظلت آثاره بعيدة طوال العام، عن عشرات الملايين من الروس الذين كادوا ينسون اسم الرجل كما نسوا في غمار انشغالهم بهموم الحياة اليومية أسماء زعماء حرب كثيرين طالما روعوا البلاد والعباد، لكن ألسنة اللهب تكاد لا تنطفئ منذ شهور في منطقة تشبه «برميل البارود» المجهز للانفجار في كل لحظة. قد تكفي الأرقام التي أعلنها وزير الداخلية الروسي رشيد نور علييف لتعكس الوضع في داغستان الجمهورية الجبلية الصغيرة التي يطلق عليها كثيرون تسمية «جبال النار». ففي النصف الأول من العام الحالي نفذ المتشددون المسلحون 76 هجوماً ضد قوافل عسكرية أو منشآت حساسة أو شخصيات بارزة، وشهدت الجمهورية خلال الفترة ذاتها 42 تفجيراً، وبحساب بسيط يتضح أن نشاط المسلحين لم ينقطع يوماً واحداً تقريباً طوال الفترة التي تمكنت فيها قوات الأمن الفيديرالي الروسي من قتل 206 مسلحين بينهم 24 قيادياً في صفوف المتمردين واعتقلت 225 شخصاً آخرين. وبحسب نور علييف فإن معدل الهجمات والتفجيرات ارتفع بالمقارنة مع الفترة ذاتها من عام 2010 بنسبة عشرين في المئة. لكن هذا ليس كل شيء بالنسبة للوضع الميداني، لأن الشهور الثلاثة اللاحقة شهدت تصعيداً أقوى وتلاحقاً أسرع في وتيرة الهجمات والعمليات التفجيرية، وأيضاً على صعيد محاولات استهداف الشخصيات القيادية بينها رئيس الجمهورية محمد سلام الذي نجا أخيراً، بأعجوبة من كمين استهدف موكبه. ودق خبراء روس ناقوس الخطر بعدما أظهرت معطيات وزارة الداخلية أن غالبية الهجمات التي تأخذ طابعاً إرهابياً يقوم بتنفيذها مقاتلون قدموا من داغستان، ما يضع الجمهورية في موقع المركز المحرك للنشاط المتطرف في روسيا خلال العامين الأخيرين على أقل تقدير. وفي مقارنة نادرة نشرت وزارة الداخلية معطيات عن حجم الهجمات في مناطق روسية عدة خلال الشهور السبعة الأولى من العام الحالي، تظهر أن عدد الاعتداءات الإرهابية التي فتح فيها تحقيق رسمي بلغ في روسيا إجمالاً 411 هجوماً بزيادة نسبتها 26.5 في المئة عن الفترة المماثلة من عام 2010. وكان من الطبيعي أن تشغل داغستان المركز الأول بين الأقاليم الروسية تليها مقاطعة سفيردلوفسك ثم سان بطرسبورغ وستافروبول ليحل إقليم كراسنويارسك السيبيري في ذيل اللائحة. الارهابيون معروفون لدى اجهزة الامن اللافت أن مفوض الرئيس الروسي في دائرة شمال القوقاز الفيديرالية الكسندر خلوبونين أعلن أخيراً، أن عدد المسلحين المتشددين الناشطين في شكل دائم في منطقة شمال القوقاز لا يزيد على ألف شخص، مضيفاً أن «جميع قياديي وأعضاء التشكيلات الإرهابية الموجودة في شمال القوقاز، معروفون لدى أجهزة الأمن الروسية». وفي تصريح لافت قال خلوبونين إن المعطيات المتوافرة تؤكد أن «تمويل هذه التشكيلات المسلحة يتم من داخل روسيا» وأن الدراسات والتحقيقات التي أجريت أوضحت أن «حجم التمويل الداخلي للإرهابيين يصل إلى 90 في المئة في مقابل حصول بعض الفئات منها على تمويل خارجي لا يتعدى حجمه العشرة في المئة المتبقية». وأوضح إن «هذه التنظيمات لا تحتاج إلى تمويل من مؤسسات خارجية ومنظمات إرهابية دولية مثل «القاعدة»، إذ يكفي أفرادها جمع الهبات التي يقوم بها رجال أعمال وشركات تعمل لحسابهم، كي يتمكنوا من تنفيذ مخططاتهم الإرهابية والإجرامية». ويلفت هذا التصريح النظر إلى تحول جدي في وضع الفصائل المتشددة الناشطة في شمال القوقاز، إذ كانت موسكو تتحدث قبل سنوات قليلة عن تمويل خارجي كامل للمتمردين، وعن حصول غالبيتهم على تدريب وإعداد خارج البلاد، بعبارة أخرى كانت موسكو تصر على مدى عقدين شهدت فيهما المنطقة حروباً متواصلة على أن العنصر الخارجي هو الأبرز والأهم و «ولو لم تتدخل أطراف خارجية لنجحنا في تسوية مشكلات القوقاز منذ زمن بعيد» كما كان يحلو لخبراء السياسية والعسكريين أن يرددوا. العمليات انخفضت 40 في المئة لكن خبيراً أمنياً أبلغ «الحياة» بأن الأرقام والتفاصيل المعلنة «لا تدفعنا إلى القلق»، موضحاً أن المعدل العام للهجمات الإرهابية انخفض في البلاد عموماً بنسبة 40 في المئة بالمقارنة مع الأعوام الماضية، وأن زيادة المعدلات ظلت محصورة فقط في جمهوريتي داغستان وكاباردينا بالكاري المجاورة. ولفت المصدر إلى أن تزايد حالات إحباط الهجمات قبل وقوعها يعد مؤشراً إلى نجاحات كبيرة حققتها الأجهزة الأمنية والخاصة خلال الفترة الماضية، داعياً إلى عدم «اعتبار الوضع الداغستاني تحديداً مثالاً يمكن تعميمه في البلاد». لكن هذا «الاطمئنان» لم ينعكس في حديث الرئيس الروسي ديمتري مدفيديف خلال استقباله رئيس داغستان بعد مرور وقت قصير على محاولة اغتيال الأخير، إذ شدد مدفيديف على «ضرورة الاستمرار في مكافحة الإرهاب والتطرف في داغستان»، مشيراً إلى أن «هذه الظاهرة ما زالت تشكل عقبة خطرة على طريق التنمية». ولفت الرئيس الروسي إلى إنه «بالإضافة إلى التدابير الأمنية ينبغي إشراك رجال الدين في حملات توعية واسعة بين أوساط الشباب». وأشار ميدفيديف في وقت لاحق إلى واحدة من الأسباب الأساسية التي جعلت داغستان مركزاً لنمو وترعرع المتشددين الأصوليين عندما تحدث عن آثار التحولات الاجتماعية الكبرى التي مرت بها روسيا في السنوات الماضية، وأدت إلى حدوث فجوة واسعة بين سكانها في مستوى المعيشة. موضحاً أن بعض الأغنياء في روسيا يحصلون على ثلث المداخيل الإجمالية في البلاد فيما لا تزيد حصة أفقر الفئات على 2 في المئة منها. ويضع خبراء الفجوة التي تحدث عنها الرئيس الروسي على رأس لائحة أسباب انتشار ظاهرة الإرهاب على رغم تراجع أفكار «الانفصال القومي» التي فجرت في وقت سابق الحرب في الشيشان. وبالإضافة إلى الفقر وتزايد الشعور بفقدان العدالة الاجتماعية تبرز عناصر الفساد الإداري المتأصل الذي سمح لمجموعات عرقية أو اثنية في التحكم سياسياً ومالياً وإدارياً بمقدرات الجمهوريات الصغيرة وموازناتها. وداغستان وهي جمهورية صغيرة نسبياً بالمقارنة مع الأقاليم الروسية الشاسعة المساحة إذ لا تزيد مساحتها على 50 ألف كيلومتر مربع وفيها نحو ثلاثة ملايين نسمة، يمثلون خليطاً عرقياً نادراً يزيد عدد مكوناته على 113 قومية، أكبرها العرق الأفاري الذي يحكم الجمهورية منذ العهد السوفياتي. وقال رئيس لجنة الأمن في مجلس النواب الروسي فلاديمير فاسيلييف إن الفساد والجور الاجتماعي يعدان من أبرز أسباب ميل فئات من الشباب لحمل السلاح، إلى جانب ردود الفعل القاسية أحياناً من جانب القوات الفيديرالية التي تؤدي إلى تنامي مشاعر الغضب على المركز الفيديرالي في منطقة تبرز فيها عادات الثأر وتتفوق مشاعر العزة والكبرياء والتعصب القبلي على المبادئ الأفكار الأخرى. وبحسب فاسيلييف فإن سبب الصفة «الدينية» التي تحملها نزعات التمرد في الجمهورية يعود إلى اتساع نشاط الطرق الصوفية في داغستان وشغلها مكانة مركزية بالنسبة إلى سكان الجمهورية الذين يطلقون على النشاط الصوفي تسمية الإسلام التقليدي في حين يتعامل كثير منهم بحذر مع الأفكار «السلفية المستوردة من الخارج». أما داخل داغستان ذاتها فلا تبدي القيادة مخاوف من انتشار ظاهرة النشاط المسلح، وتعتبر أنها لا تواجه ظاهرة واسعة النطاق، وقال ل «الحياة» وزير القوميات بيك ميرزا مورزايف إن «غالبية المعطيات التي تنشرها وسائل الإعلام الأجنبية ليست صحيحة وتصاعد النشاط الإرهابي في الجمهورية ليس مرتبطاً بتدهور الوضع الأمني». الداغستانيون ضد الارهاب وأوضح مورزايف أن السلطات الداغستانية بدأت عملية واسعة للحوار بين مختلف مكونات المجتمع الداغستاني، وحققت نتائج جيدة جداً دفعت «القوى الراديكالية التي لا ترغب بالحوار وبإلقاء السلاح إلى تصعيد نشاطها». معتبرا أن المجموعات المسلحة التي تنشط حاليا في الجمهورية ومحيطها «أعلنت في الواقع حربا على شعبها». وأشار إلى تفاعل «قطاعات واسعة من الشعب الداغستاني الذي أعلن موقفه ضد التطرف وهذا ظهرت نتائجه في معدلات النمو في المجالات الزراعية الصناعية والنقل وغيرها». يؤكد مورزايف إذاً أن الأزمة ليست عند السلطات «لكنها أزمة فكر عند مجموعات لا ترغب بإلقاء السلاح والعودة إلى الحياة المدنية». ويؤكد أن تلك المجموعات تعبر عن «فئات محدودة جداً معزولة عن المجتمع». تبدو العبارات مطمئنة للبعض، ومقلقة لآخرين يتهمون السلطات بأنها تكرر خطأ تجاهل الأسباب الحقيقية للمشكلات التي فجرت برميل البارود المحتقن في المنطقة أكثر من مرة في السابق.