في قضية غير متداولة، أن العقيد معمر القذافي أرسل يوماً في طلب الجنرال المغربي أحمد الدليمي، قائد المنطقة الجنوبية (الصحراء). كان المبرر درس تطورات ملف النزاع. وبين ثناياه كانت تحوم الفكرة التي أرّقت العقيد طويلاً وهي طريقة إطاحة نظام الملك الراحل الحسن الثاني. فقد جرّب ذلك على امتداد حلقات التوتر بين البلدين. والظاهر أنه منذ استضافة المغرب الملك إدريس السنوسي فترة قصيرة بعد الانقلاب عليه عام 1969، لم يتوان القذافي في اعتبار ذلك الموقف «عدائياً» من طرف المغرب. وقد شملت محاولاته استضافة معارضين مغاربة كان يمدهم بالسلاح، ويمكّنهم من إذاعات خاصة موجهة ضد النظام، بل إنه طلب إلى الرئيس الجزائري هواري بومدين السماح لطائرات مقاتلة ليبية بعبور أجواء بلاده لدعم انقلابيي الصخيرات في العاشر من تموز (يوليو) 1971. وفي مقابل ذلك، تؤكد وقائع أن الحسن الثاني رفض طلباً ملحاً لوزير دفاعه الجنرال محمد أوفقير كان يهدف إلى إسقاط طائرة العقيد القذافي لدى عبورها الأجواء المغربية في طريق العودة من زيارة افريقية. غير أنه بعد مرور حوالى عشر سنوات على تلك الأحداث، في مطلع ثمانينات القرن الماضي، خالجت الحسن الثاني أفكار مشوشة عن طلبات العقيد القذافي - التي كان يعرف أدق تفاصيلها. وسرعان ما تغلب الحسن الثاني على هذه الأفكار المشوشة، من منطلق أن محاورة الخصم أفضل من عدم الإفادة من الفرصة المتاحة، فقد كان يعنيه وقف حرب الصحراء بأي ثمن، أو في أقل تقدير التخفيف من ضغوطها إلى حين إكمال القوات المغربية بناء «الجدار الأمني» الذي يسيّج المدن الآهلة بالسكان. وكثيراً ما كان يجاهر بأنه يناهض شكلاً من أشكال الحرب الباردة التي كانت تُخاض بالوكالة، وما فتئ يطلب إلى الدول الغربية أن تتعاطى معه كعضو في ناديها المفتوح على الأفكار والخيارات وليس التحالفات العسكرية. حكى أحد الضباط المغاربة الذي شارك في جولات ذلك الحوار، أنه سمع من العقيد القذافي ما يفيد بأنه يرغب في الاجتماع إلى الجنرال الدليمي ولكن من دون علم الحسن الثاني. وشاءت ظروف بعد رحيل الجنرال الدليمي أن يجتمع الحسن الثاني والعقيد القذافي في الرباط. وكان السؤال المحوري: لماذا فشل كلٌّ من الرجلين في الإطاحة بالآخر؟ وجاء رد الملك بأن بُعد المسافة بين المغرب وليبيا شكّل عائقاً أمام تنفيذ مشروعات الانقلاب. لكن بُعد المسافة سيتقلص كثيراً عندما يصبح العقيد القذافي في مواجهة الشعب الليبي الثائر، وإن كان الراجح أن نظرته الدونية لما كان يحدث حوله جعلته يفقد بوصلة الرؤية. يقول أحد الفنانين المغاربة البارزين إنه لم يسمع قائداً يحتقر شعبه كما تناهى إلى علمه يوماً حين كان في ضيافة العقيد الليبي في ثكنة باب العزيزية يوماً يُجالسه في مأدبة إفطار رمضانية. قال إنه كان مصرّاً على أن يحلب ناقته بيديه، وكان أشد إعجاباً بحليب النوق الذي ردد أنه يُشفي من كل العلل، إلا علة الاستبداد، على حد قول جليسه. ومن نوادر تلك الجلسات أن القذافي كان يطمح أن يكون ممثلاً، وقد أقسم في حضور شهود أنه يستطيع تشخيص أي دور يختاره. لكن يبدو أن الحظ لم يسعفه في أن يشخّص دور القاتل المقتول. روى الحسن الثاني لاحقاً أنه سمع المزيد من الانتقادات من قادة دول غربية لم يستسيغوا كيف أن الرباط أبرمت معاهدة الوحدة («الاتحاد العربي الافريقي») مع نظام العقيد القذافي الذي كان يُنظر إليه على أنه خارج القانون والأعراف، وحتى التقاليد، ما اضطر العاهل المغربي إلى إيفاد مفكرين ومستشارين لإقناع الغرب بأن تلك المعاهدة ستكون محدودة في الزمان والمكان. كان جوابه أن المغاربة يستشهدون في الصحراء بسلاح قادم من ليبيا. وكي يدلل المغرب على رجاحة موقفه في النزاع الدائر، حرص على تأمين أول اجتماع ضم القذافي إلى الشيخ خليل الركيبي والد زعيم جبهة «بوليساريو» محمد عبدالعزيز، الذي لا يزال يقيم متقاعداً في الجيش في بلدة صغيرة وسط البلاد اسمها «قصبة تادلة». بيد أن الحسن الثاني، بعد انهيار تلك المعاهدة نتيجة تصرفات ليبية وُصفت بأنها تتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد بعد كشف ترسانة أسلحة وكميات كبيرة من مطبوعات الكتاب الأخضر عثر عليها في المغرب، سيبدي ذهوله في أول لقاء يجمعه إلى القذافي بعد ذلك، بخاصة بعدما حرص العقيد على ارتداء قفاز أبيض كي لا يلمس اليد التي صافحت رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز، في إشارة إلى قمة منتجع يفرن لعام 1986 التي قوبلت بردود أفعال عنيفة من طرف ما كان يسمى ب «جبهة الصمود والتصدي». سينقل شاهد عيان عن الحسن الثاني قوله موجهاً كلامه للقذافي: سيأتي يوم لن تجد فيه أي يد ممدودة نحوك. وفي وقائع أخرى، أن الحسن الثاني اشتكى إلى الزعيم المصري جمال عبدالناصر من تصرفات القذافي يوم أصرّ على أن يشارك في أول قمة لمنظمة المؤتمر الإسلامي استضافتها الرباط في خريف 1969 وهو يحمل مسدسه ويضعه إلى جانبه فوق الطاولة. يقول الملك الراحل: «جرت الجلسات في جو مشحون بالتوتر، وكان القذافي يضاعف من تلميحاته المزعجة». ويضيف الملك الراحل: «لقد بدا إنساناً يتغيّر ويستحيل مراقبته وضبطه، وكان مزعجاً للغاية». ويذهب الحسن الثاني أبعد من ذلك، إذ يصف العلاقات بين القذافي والجزائر على عهد الرئيس الراحل هواري بومدين بأنها لم تخل من الحذر والتوتر، إلى درجة أن بومدين صاح يوماً بعد إبرام معاهدة الوحدة بين تونس وليبيا، بأنه لن يقبل الأمر الواقع، و «أرفض أن تكون ليبيا إلى جانبي». في مفارقات السياسة، أن الجزائر التي كانت تنظر بغير ارتياح إلى سياسة العقيد القذافي، انبرت لإبرام معاهدة الإخاء والتعاون التي جمعتها إلى جانب تونس وموريتانيا، فيما تحالفت الرباط وطرابلس، قبل أن تنقشع سماوات الفضاء المغاربي لتمطر تكتلاً أطلق عليه «الاتحاد المغاربي» في 17 شباط (فبراير) 1989، أي نفس الموعد الذي ستندلع فيه الثورة الليبية بعد مرور حوالي 22 سنة على ذلك الحدث. العاهل المغربي الملك محمد السادس زار ليبيا أكثر من مرة، لكنه ظل منسجماً مع قناعاته التي ضمّنها أطروحة دكتوراة حول الحوار المغاربي - الأوروبي. لكن صدمة المغاربة كانت قوية عندما حرصت ليبيا قبل سنوات قليلة على استضافة زعيم جبهة «بوليساريو» إلى جانب قادة شاركوا في احتفالات ليبية. انسحب رئيس الحكومة المغربية عباس الفاسي والوفد المرافق له من تلك الاحتفالات، وبررت ليبيا الأمر بأنه لا يعدو خطأ بروتوكولياً. ومن وقتها بدا أن العلاقات الليبية - المغربية حشرت في الزاوية، إلى أن بدأت الثورة ضد القذافي قبل ثمانية شهور وأعلنت الرباط اعترافها بمعارضيه قادة المجلس الوطني الانتقالي.