إن الله عز وجل أكمل شريعته ببعثة خاتم المرسلين (صلى الله عليه وسلم) فلم يبق أمر من أمور الدنيا أو الآخرة أو للناس فيه مصلحة خاصة أو عامة إلا ووضحه وبينه وجعل الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. يقول الله عز وجل عن هذه النعمة العظيمة: «الْيَوْمَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينًا» (المائدة 3)، فمبادئ الإسلام وشرائعه العامة واضحة جلية أما الجزئيات فبعضها قد تضمنته النصوص وبعضها ترك للاجتهاد، لأن الجزئيات التي تتولد عن الحوادث المستجدة لا تتناهى، بينما النصوص تتناهى، ولو أُلزم الناس في كل قضية جزئية أن يحكمها نص لوقع الناس في حرج... وأيضاً فإن القضايا قد تتغير صورها وملابساتها وأنواعها من زمن إلى آخر... فلو وضعت لها نصوص تشريعية، فسيقيّد ذلك من حركة المجتمع والدولة ويعطل مسيرتها، ولكن الشارع جعل لما يستجد في حياة الناس وما هو قابل للتغير، قواعد كلية ومبادئ عامة يعود الناس إليها ليجدوا فيها الحكم عن طريق الاجتهاد والقياس أو غيره من مسالك الاجتهاد، كالاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف وسد الذرائع وغيرها، يقول الشاطبي - رحمه الله - «فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها من الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بُيِّنت غاية البيان. نعم، يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولاً إلى نظر المجتهد فإن قاعدة الاجتهاد أيضاً ثابتة في الكتاب والسنّة فلا بد من إعمالها ولا يسع تركها، وإذا ثبتت في الشريعة أشعرت بأن ثمَّ محالاً للاجتهاد، ولا يوجد ذلك إلا في ما لا نص فيه... بحسب ما يحتاج إليه من القواعد الكلية التي يجرى عليها مالا نهاية له من النوازل» (الاعتصام 2/817). فإذا كان الاجتهاد ضرورياً في حياة أسلافنا فهو أكثر ضرورة في حياتنا اليوم، ذلك أن أوضاعنا الحياتية قد تغيرت عما كان عليه الماضي تغيراً كبيراً وتطورت تطوراً مذهلاً بخاصة في ما يتعلق بمستجدات العصر الراهن في قضايا السياسة والدولة وطرق الحكم الرشيد ومساحة الحريات المدنية إذا تقاطعت مع الديني، وما هو دستور الوطن القومي المتعدد الثقافة والدين، والموقف من الخروج على الحاكم، والوقوف مع الثورات على الأنظمة، إلى غيرها من نوازل تترى كل يوم، ما يوجب مواجهتها باجتهادات يُبيَّن فيها حكم الشريعة حتى يكون المجتمع المسلم على بينةٍ من أمره فيما يدع وفيما يذر. وهذه النوازل المستجدة ذات تعقيدات وملابسات وتداخلات بعلوم ومعارف أخرى، ما جعل الاجتهاد يختص بالنظر في أمرين مهمين: الأمر الأول: أن تتوافر في أهل النظر والاجتهاد في تلك النوازل سعة علم في التشريع الإسلامي والمعارف الإنسانية الأخرى حتى يكون الاجتهاد في تلك القضايا متكاملاً وناضجاً ومستوعباً كل جوانب النازلة المجتهد فيها ويكون حكمه عليها صحيحاً، وهذا المقدار الكبير من العلوم والمعارف لا يمكن توافره في عصرنا الراهن في عالم واحد وإنما يحتاج إلى عدد من العلماء ليكمل بعضهم بعضاً. فالعالم المجتهد في العلوم الشرعية يكمله عالم مختص متبحّر في العلوم الإنسانية وحتى لو افترضنا أن رجلاً لديه إلمام بكل العلوم، فإن تعرّضه للخطأ أكثر احتمالاً من تعرض الجمع الكثير. لذلك، فالاجتهاد الجماعي أكثر إصابة للحق وأقل خطأ من الاجتهاد الفردي، فهو مطلب حاجي لا بد منه حتى تتسع الشريعة وتشمل الكثير من القضايا الاقتصادية والعلمية والطبية والاجتماعية والسياسية وكل ما له صلة بالحياة اليومية، ولا بد للبحث فيها ودراستها دراسة علمية مفيدة، من تصور صحيح واستيفاء كامل لجوانبها الواقعية والعلمية كافة أولاً، ثم الشرعية ثانياً، ولن يتم ذلك على الوجه الأكمل إلا عبر الاجتهاد الجماعي (انظر: مناهج البحث في الفقه الإسلامي د. عبدالوهاب أبو سليمان ص 98 - 99). يقول الشيخ مصطفى الزرقا - رحمه الله: «لقد كان الاجتهاد الفردي ضرورة في الماضي، وهو الآن ضرر كبير فالمحاذير التي كانت مخاوف يخشى وقوعها في القرن الرابع الهجري، ولأجلها أغلق فقهاء المذاهب الاجتهاد قد أصبحت اليوم أمراً واقعاً. فإذا أردنا أن نعيد للشريعة وفقهها روحها وحيويتها بالاجتهاد الواجب استمراره في الأمة شرعاً، والذي هو السبيل الوحيد لمواجهة المشكلات الزمنية الكثيرة بحلول شرعية جريئة عميقة في البحث متينة الدليل بعيدة عن الشبهات والريب والمطاعن قادرة على أن تهزم الآراء والعقول الجامدة والجاحدة على السواء فإن الوسيلة الوحيدة إلى ذلك هي أن نؤسس أسلوباً جديداً للاجتهاد وهو اجتهاد الجماعة بدلاً من الاجتهاد الفردي وبذلك نرجع بالاجتهاد إلى سيرته الأولى في عصر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما».(انظر: الاجتهاد ص 117). الأمر الثاني: أن من الأمور المهمة التي ينبغي للقائمين على الاجتهاد في النوازل أن يراعوها تحقيقاً لأهمية الاجتهاد الجماعي للنظر في النوازل المعاصرة ومحافظة على حسن أدائه؛ تأكيد دور (المجامع الفقهية) التي تضم أغلب المجتهدين في الشريعة وأشهرهم ليبذلوا وسعهم في التوصل إلى أحكام تلك النوازل. والنوازل السياسية اليوم هي أعقد أنواع المستجدات، وطبيعتها تجعل الفقهاء في حذر من الخوض فيها، نظراً إلى خطورة مآلاتها، ومَظنّة ما تحمله لأصحابها من المواجهة مع أصحاب النفوذ، وترك النظر فيها يشجع أنصاف العلماء للتصدر في بيانها فيغمط الحق أو تشتعل فتنة، وتخذل الأمة في علمائها بصمتهم عن نوازل مدلهمة تجعلهم في حيرة وتخبط عن معرفة الحق أو المخرج الأسلم من تلك النوازل. فموقف الفقيه في البُعد عنها والخوف من القول فيها، لم يعد مبرراً، فالخطورة في الصمت على مستوى الأمة أعظم من سلامة الفرد في البُعد عنها وترك الأمر لغيره ممن لا يحسن الفهم والتنزيل، وخروجاً من هذا المأزق وتبعاته المسلطة على رأس الفقيه، كان ينبعي أن تمارس المجامع الفقهية دورها ويصبح الاجتهاد عملاً مؤسسياً، يخفف وطأة الضغط على الفقيه، ويسدد الخلل من قصور التصور أو ضعف التأصيل، كما يساعد على حسن التنزيل وتأمين الموقف بما يحفظ للأمة مصالحها وللحق ظهوره و للعلم حضوره. والاجتهاد المؤسسي من خلال المجامع والهيئات، لا ينبغي خضوعه للتسييس لأن مقصد وجوده تخفيف نوازع الهوى وتقوية النظر، وليس جسراً لنظام أو تبريراً لواقع مخالف، خصوصاً أن تلك الهيئات العلمية الرسمية كمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وهيئة كبار العلماء بالسعودية، ومجمع البحوث الإسلامية بمصر، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، كلها من الهيئات المحترمة والمقدرة في الأمة وغالبيتها لا تخضع إلا لسلطان الشرع، فدورها اليوم آكد في الحضور والتأثير، ونوازل السياسة من أشد مزالق الفتوى المعاصرة، فالأمان الحقيقي هو بعودة هذا الفقه لأهله وأن ينظروا إلى ميزان الشرع ومصالح الخلق بما يحفظ للأمة ضروراتها الكلية. * كاتب سعودي