خفض صوت الأغنية البلهاء على إذاعة محلية، وأغلق نوافذ السيارة، ورفع «النقّال» بيمناه، بينما ترك المقود لليسرى باتجاه عمله. ضغط على رقمها، ففتحت الخط. كان يودّ أن يقول: «أحبكِ»، ويغلق الهاتف. أن يقول: «اشتقتُكِ»، فحسْب. يقول كلمةً حلوة تخرج منه بلا رتوش. أما هي، فتمنّت تلك اللحظة أن تصلها أنفاسُه لتردّ الحبَّ بأكثر. «هل وصلتِ العمل؟»، سألها، وحين أدرك أن هذه تكفي، لم يعثر على ما سيقوله حين ستنتهي من قول: «نعم، متأخرة قليلاً»، فأغلق السماعة وهو يتمتم «يللّه... سلام». * ممدّداً كان يعلّق بصره في سقف الغرفة حين دخلتْ. الوقتُ عصريّة. ألقت بلوحةٍ مؤطّرةٍ على السرير، وقالت: «كنتُ سأُحضرها أمس. لكن...». أبدى عدم اكتراثه منصرفاً إلى شاشة التلفاز الخرساء. وحين أدارت له ظهرها تتدبّر زينتها أمام المرآة، رفع بيدهِ الغطاء وقرأ على اللوحةِ ما يحبّه من «درويش» وإيّاها، بخطّ فنّان أنيق: «كما ينبتُ العشبُ...». أدار «الدبلةَ» في بنصره يستذكر حين نقشا العبارةَ معاً وهما يدشّنان مستقبلَ «شراكتهِما» مفعمَين بالأمل. تقصّد في أن لا تنبس شفتُه بقيد حرف. وتركها تغادر الغرفة، كأنما خاطبتْ طيفاً تعوزه المشاعر. * كانت مستلقيةً في الغرفة الأخرى أثناء الغروب حين كتبَ لها على صفحتها في «فايسبوك»: «إلى متى... ؟». ألغى نقطتين قبل إشارة الاستفهام، وأتبعَ الأخيرةَ بإشارة تعجُّب. أحسّ بابتذال العبارة. أبْدَلها ب: «كيف نعيد ترتيب أوراقنا؟». حذفها أيضاً، وكتب من جديد: «ما بالُ أمطاركِ شحيحة؟». وجدَ في العبارة تلكَ بعضَ البلاغة. وعندما عقدَ العزمَ على بعث الرسالة، كان جزءٌ منه يتمنّع مقنعاً إياه بسخافة ما يفعل، ومذكّراً إياه بوقارٍ يَفترضه فيه. وعلى فوره غادرَ صفحته، لتظلّ كلماته عالقة. * اختفى المشهد الذي تتبّع فيه سمر سامي تنزلُ الدَّرَج بعَرجٍ خفيف يحبّه فيها. قلّب المحطات آخرَ الليل، وما جذبه شيء. أطفأ التلفاز، وأصاخ السمع لأصواتٍ وهمهمات تنبعث بين هنيهةٍ وأخرى من الجوار. راقَت له قرقرةُ جارةٍ يناغشُها زوجُها على ما رجّح. حاول أن يلظم مما تناهى إلى سمعه من كلماتٍ متفرقة، عقداً من الكلام يفهمه. ملأ الفراغات، ففاضَ في نفسه شعورٌ باليُتْم والوحدة. تأمّل وجهَ زوجته التي تغطّ إلى جانبه بأنفاسٍ منتظمة، زفرَ وهو يطفئ النور دون أن يتزحزح من مكانه، أدارَ ظهرَهُ لغفوتِها ونام. * ظهيرةَ اليوم التالي، أرسل لها نَصَّه على بريدها الإلكتروني. دعاها إلى قراءته بوصفها صديقة. ثم فتح ملفاً جديداً في حاسوبه، وبدأ يملأ البياضَ بقصةٍ أخرى، كانت هي البطلةَ فيها، فيما كان حضورُه يتوارى، على نقيضِ ما كانَ في خُطاطتِه أمس!