كنت غادرت الطاولة لتوي نحو السرير حين أفزعتني رنة الجرس. التفت من فوري نحو ساعة الحائط من دون أن أتحرك. العقربان يكادان يتطابقان. منتصف الليل. رنة أخرى أعادت بصري إلى الباب قبل أن تذكرني النافذة العارية من الستائر أننا في تشرين؛ ظلمة وبرد وريح تهب على سجيتها. بعد رنة ثالثة بدت واضحة، تيقنت أن أحداً ما وراء الباب. من يا ترى؟ أي زائر وأنا لا علاقة تربطني بأحد في المنطقة وفي سواها، منذ ارتحلت إلى هنا! كان لا بد أن أواجه المسألة. انسلخت عن السرير متلعثم الخطوات وأنا أتمنى أن يكون الصوت مجرد وهم؛ صوتاً في داخلي! وبما أنني سمعته بأم أذني، رأيت أن أعدل أمنيتي: لو أن في الأمر محض التباس؛ كأن يكون عابر طريق يسأل عن وجهته... فلا جلد لدي لأستقبل أحداً وأنا أبدو كتلةً من تثاؤب! كل ذلك دار في ذهني وأنا بعد ما وصلت الباب. وعندما رن الجرس للمرة الرابعة، وتوالت طرقات بثقة من يعرف مبتغاه، تنبهت إلى أنني لم أقل: «من؟» وماذا لو فعلت؛ أكان سيجيب؟ لا أعرف لم لم يتبادر إلى ذهني أن تكون امرأة خلف الباب، فالهيئة التي لاحت في مخيالي لم تغادر دائرة الرجل. فمن يكون؟ أدرت مقبض الباب منزوع الرغبة من سؤال الطارق عن هويته قبل أن أفتح له، وتركت المسألة للقدر. فما الحكمة في أن أنتظر الجواب فيما تفصلني عن معرفة القابع خلف الباب هنيهة أو اثنتان؟ فعلتها! تقابلت عيوننا أولاً: أطول مني قامةً، عريض الصدر، بوجه قاسي الملامح، وذقن مهمل منذ أيام على ما رجحت. هندامه ينم عن تواضع الحال: معطف بارد اللون، وبنطال «كتان» مكفهر، وعندما اختطفت نظرةً إلى أسفل، وشى حذاؤه بسيرة شقاء عابرة للفصول. لم أفتح فمي. لم أنطق. لكن عيني بدتا تدعوانه للدخول، فيما اتخذ وضعية هدوء يضمر عاصفةً عما قليل. عاينت أعضائي وانفعالاتها إزاءه بوصفي «آخر». كأنني انفصلت عني. كأن ثالثاً بيننا؛ أنا وهو، أو كأنني ثالث بينهما! هم بتخطي الباب كأن لم يعد يراني. عدت إلي وأنا أشك في وجودي، فلو كنت على هيئتي التي أعرفني عليها، لألقي التحية، صافحني، هز رأسه، قال شيئاً، حرك يده. أما ألا يفعل أياً من هذا كله، فليس سوى تجاهلي والهزء مني كما وشى سلوكه. يا لضآلتي! كنت ما أزال في لجة الصدمة حين سبقني إلى المقعد الخشبي المجاور للطاولة. اختار الموقع الذي اتخذته لنفسي منذ ارتحلت إلى هذا البيت قبل أربعة شهور. أكان يقيم هنا قبلي؟ هل متع ناظريه بأوراق «الكينا» النحيلة التي تشكل صورةً مؤطرةً بخشب عتيق من خلف النافذة! تبعته كأنني ضيفه. سايرت الالتباس كي أفهم. وانفصلت عني هذه المرة طويلاً. سحب «الثالث» المقعد المقابل إلى الخلف قليلاً، وجلس قبالة الضيف. بينهما طاولة تعلوها أوراق مرتبة، ومنفضة نحاسية على هيئة مصباح علاء الدين. بدا ضعيفاً. لنقل: كان الأول أقوى منه في الصورة التي تجمعهما معاً من لقطة جانبية. أكثر هيبةً منه على نحو أدق. كان «واثقاً». - لكنك أمعنت في تشويهي. أهو ثأر أم غيرة! حين قالها، كان يستبق سؤالي الذي لم أعجنه بعد! عدت لألتحم بي لحظة بدوت منكشفاً. خاطبني بوضوح وأنا أداري ارتباكي: - معك حق. أن يصيبك ذهول. لكنني قلت لنفسي: لا بد من مجيئي، ولو في ساعة متأخرة. لم أعد أحتمل. بيننا حساب، فلنصفه الآن، وهنا! وقبل أن أفه بحرف، كان يبادرني: - أنا؟ حسناً.. سؤال وجيه. سأترك الجواب لحذاقتك! انفصلت عني، وعدت أراهما يتقابلان، ودخان السيجارة التي أشعلها يبعث حيويةً في مشهد ثابت. - أنا بطلك! من لحم ودم. نعم! ألست تؤمن أن أبطالك حقيقيون؟! لم تكن تبالغ. أنا أحدهم. وأشار بإصبعه السبابة إلى الأوراق. كانت أقرب إليه من «الثالث» الذي واصل انسلاخه عني. «لكنني..»، سمعتني أقولها أو هيئ لي، فما وجدت حروفاً تصنع عبارة. عجزت. وعاز «أناي» الكلام. - قل.. أحب أن أسمعك قبل أن أقوم بما جئت لأجله! لم أنبس. استعدتني بمشقة، وما عاد المشهد من عين محايدة يروقني. إنه في مواجهتي، أو أنا في مواجهته. شخص بمهابة عالية يجلس على المقعد خاصتي في غيابة ليلة تشرينية بلا موعد أو سابق معرفة، يدعي إنه «بطلي»! تابع دون أن ينتظر شيئاً: - قلت: مصيره يعيد النظر! يزعجني أن تمسخني على الورق. كيف تجرؤ فتدعي معرفتك بي وبطباعي، وما التقيتني أبداً؟ اكتست عبارته الأخيرة نبرة فارس نبيل خذله رفيقه، فأتى ليضع الأمور في نصابها. تنبهت أنني انفصلت عني من جديد، ليس بيدي هذه المرة! تأمل تدلي «اللمبة» من السقف كحبل مشنقة قبل أن يمحضني نظرة تشف. جال بصره في الغرفة من الزاوية إلى الزاوية. دورة واحدة وهو في «مكاني الأثير» وكان كما لو أنه التقط صوراً متتابعة لمحتوياها ب «عين صقر».. اعتقدته سيسألني: - هلا اختبرت قدرتي في وصف الغرفة شبراً شبراً وأنا مغمض العينين؟ هممت باختباره، ثم تراجعت حين بدت لي فكرةً سخيفة. بذلت جهداً لأتماهى معي مبتلعاً لساني. انتبهت إلى أنه «وضع يده» على الأوراق. كانت معدةً ليحملها بيمينه. توقعت ما يهجس به وحدست بما هو مقدم عليه. نهض بتمهل من لا يستعجل شيئاً. أخرج من معطفه ورقتين، ألقاهما نحوي فاستقرتا على الطاولة. اجتاز الباب الذي كان لا يزال مفتوحاً. رعشة برد أصابتني فيما اندغم في ظلمة الخارج، وحين تيقنت أنه غادر فضائي، استعدت «مكاني» الذي استباحه، وتشبثت به مستسلماً لغواية الكتابة. وفي الأثناء كان قلق يساورني من أن يعود ويسلبني ما تبقى لدي من ورق وكلمات!