في تقليده السنوي أواخر كل عام، يحتفي أحد أبرز المراكز الثقافية في الولاياتالمتحدة والعالم «مركز كينيدي للفنون» بشخصيات بارزة أثرَت الحياة الثقافية الأميركية. ومن بين المحتفى بهم، في الأسبوع الأخير من العام الجاري، عازف التشيللو الأشهر في عصرنا، يويوما وهو صيني الأصل، إلى جانب أربع شخصيات أخرى ساهمت في إغناء الحياة الثقافية والفنية الأميركية. لطالما بدت لمسة يويوما شخصية، فهو يقرأ العمل الموسيقي قراءة خاصة، تنطلق غالباً من روحية فياضة يسبغها على ما توثقه أوراق النوتة الأصلية، حتى أن أعماله باتت حرفة خاصة دالّة عليه، مثلما هي دالة على مؤلفها الأصلي. يضفي يويوما شيئاً من التعبيرية المعاصرة على المقطوعات الكلاسيكية في نسيج لا يصعب اكتشاف الروحية المفرطة فيه للعازف البارع. وكانت إطلالة يويوما الأولى على المسرح حين كان في الخامسة من عمره، وما إن بلغ التاسعة عشرة، حتى صار في موقع بارز لا يشغله سوى العازفين المرموقين المتمرسين الذين تسعى كبريات الأوركسترات في العالم إلى استقطابهم كي تكسب حفلاتها بريقاً وحيوية أكثر. يويوما، المولود في العام 1955 في باريس لأبوين صينيين، بدأ دراسة الموسيقى وعزف التشيللو مع والده في الرابعة من عمره، ليصبح لاحقاً، مع آلته الشجية ولأكثر من ثلاثة عقود، مصدراً للإلهام الموسيقي والروحي في المشهد الثقافي الأميركي، فنال عشرات الجوائز، ومنها جوائز «غرامي» عدة والتي تعدّ بمثابة «أوسكار الموسيقى»، فيما نال «وسام الحرية» الرئاسي في وقت سابق من هذا العام، وعزف أمام ستة رؤساء أميركيين. وشكل العام 1998 علامة فارقة في وعي يويوما الموسيقي والإنساني، إذ أنشأ مشروعاً تعليمياً أطلق عليه اسم «طريق الحرير»، وتخصص في توليف برامج لتعليم الشباب حب الموسيقى الكلاسيكية واحترامها، في العديد من المتاحف الوطنية والمدارس والجامعات على مستوى الولاياتالمتحدة وآسيا وأوروبا، متخطياً الحواجز الثقافية عبر عمل قائم على نشر السلام من طريق لغة الموسيقى، مما حدا بالأمم المتحدة إلى اختياره سفيراً للسلام. والمشروع مبادرة ثقافية تبرز التراث الموسيقي للبلدان الواقعة على «طريق الحرير» التجاري القديم، وتكرّم التفاعل الموسيقي بين الشرق والغرب، ويتضمن فرقة موسيقية مكونة من عازفين من مناطق عدة في آسيا وأوروبا. وقدمت الفرقة، خلال جولتها في العام 2009، عروضاً موسيقية تضمنت أعمالاً لافتة، منها ما قدم للمرة الأولى كالمقطوعة التي اقتبسها المؤلف الموسيقي الأذربيجاني عزيز حجيبايوف من الأوبرا الكلاسيكية «مجنون ليلى»، المستوحاة أصلاً من الروايات العربية الشهيرة عن حكاية مجنون ليلى التي تعود إلى القرن السابع، وعادة ما تقارن مع مسرحية شكسبير «روميو وجولييت». كما قدم مشروع يويوما الضالع في الاتصال الثقافي الإنساني عبر الموسيقى، عملاً لافتاً آخر هو «دروب الأمثال» الذي وضعه المؤلف الأوزباكستاني ديمتري يانوف يانوفسكي مقتبساً عن «المسالك والحكم الصوفية»، وهو عرض روائي بمصاحبة موسيقية. وكان ثاني عمل ليانوفسكي ضمن «مشروع طريق الحرير»، الذي بدا نموذجاً للتفاعل الثقافي والاجتماعي بين طلاب المعاهد الموسيقية والعازفين الشبان في الولاياتالمتحدة والعالم، كما تحول «ورشة عمل خلاقة» للموسيقيين المحترفين. فخلال العقد الماضي انشغل عدد منهم بوضع 60 عملاً موسيقياً جديداً متعدد الوسائل الأدائية، ومعها طوّرت أدوات ووسائل تعليمية وبرامج للمدارس والأكاديميات الموسيقية. مشروع يويوما في الاتصال الإنساني عبر الموسيقى أوجزه بعبارته: «البلاد التي كانت في الماضي تعتبر بعيدة نائية لم تعد كذلك. فقد أصبحنا جميعاً جيراناً». وإلى جانب يويوما، سيحتفي «مركز كينيدي» بالنجمة الأميركية ميريل ستريب، والمغني والشاعر نيل دايموند، إضافة إلى نجمة «برودواي» باربرا كوك، وعازف الساكسوفون سوني رولينز عن مجمل إنجازاتهم الفنية.