من رؤى مغايرة، وزوايا نظر مختلفة تبني الرواية الفلسطينيةالجديدة عالمها الزاخر بالضرورة بكل آلام العيش هناك على أرض فلسطين وفي ظلّ الإحتلال، لكن من دون أن تقف «القضية» في بؤرة الحدث الروائي، على النحو الذي ساد طويلاً، والذي يؤثر الروائيون الشباب مغادرته فكرياً وفنياً، للبحث عن صور حياتهم هم بكل ما يعتمل فيها، وما يجعلها عصيّة، طافحة بالألم. الروائية الفلسطينيةالشابة مايا أبو الحيات تصنع حكايتها الروائية من حالة عشق تعيشها بطلتها الشابة بجموح صاخب تندفع معه للبحث عن الحياة والغوص عميقاً في تياراتها المتلاطمة غير عابئة بالضوابط الإجتماعية التي تجعل الحب يضطر للسير في ممرات المسموح، أي الذي تبيحه العادات والتقاليد والأعراف السائدة. «سلمى» الشابة التي تعيش حالة عشق كاملة تبحث طيلة رواية مايا أبو الحيات «عتبة ثقيلة الروح» (منشورات مركز أوغاريت الثقافي بدعم من دبي الثقافية – 2.11) عن تحقيق ذاتها فتندفع في الحب حتى ذروته الكبرى: أن تمنح حبيبها عذريتها، ولكن في سياق فهمها هي، أي بإرادتها هي التي تعبر عن حريتها الكاملة. كأن «سلمى» أرادت بذلك أن تبدأ من حريتها في امتلاك جسدها، وما يرتبط به إجتماعيا من قيم «كبرى»، إمتلاكه لا من أجل احتجازه و«صيانته» في تلك البوتقة الضيقة من القيم والعادات، ولكن تماما من أجل إطلاقه في فضاء الحرية، باعتباره العتبة الأولى والأهم التي لا بد أن تجتازها في طريقها الى الحرية. في الرواية تكريس لشخصية سلمى، المسكونة بروحها الداخلية، والباحثة عن علاقة جنسية كاملة مع حبيبها، علاقة سنلحظ أنها لا تساوي عندها الشهوة، ولا ترمز لها، بقدر ما تساوي الحرية معنى وممارسة واقعية. مايا أبو الحيات تضعنا منذ السطور الأولى لروايتها أمام رغبة بطلتها الجامحة في الرقص، هي التي طالما رغبت أن ترقص له وحده، هو الحبيب، الأثير، والذي يسعدها أن تبهره برقص جسدها، ولكنها بعد التجارب الأولى تصل برغبتها في الرقص إلى مقام أعلى: أن ترقص فقط لترقص، أي أن تطلق لجسدها حرية التعبير من دون غاية إرضاء الشريك، والذي يبدو لنا خلال ذلك خارج الحالة تماماً، أو لنقل على خط سير مختلف وبعيد. مستويان متباعدان في المستويين المتباعدين عن هارموني الإنسجام مع الحياة يقف الرجل والمرأة كتكثيف لحالة إجتماعية فلسطينية تبرع مايا في تصوير دقائقها وتشريح صورتها التي تختفي عادة تحت العناوين السياسية، وربما أيضاً الشعارات الوطنية، تلك التي يراد لها في كثير من الأحيان أن تكون الصورة كاملة وأن لا تسمح بظهور نقائضها التي قد تنتقص من «هيبة» المثال الوطني وكفاحيته. مدى واسع يفصل هذا الذاتي، الطافح بالأنوثة والرجولة، عن تلك العوالم الرسمية بكل ما فيها من أسباب إحباط: هنا بالذات أعتقد أن الكاتبة برعت في بناء عالمها الروائي من انتباهاتها العميقة لصورة المجتمع الفلسطيني في العاصمة الفلسطينية الموقتة رام الله: صورة الإحتلال لا تغيب، وإن حضرت في الخلفية، ومعها في الخلفية أيضاً صورة الواقع الرسمي الفلسطيني، وما يتفرع عنها من تفاصيل العيش، التي نراها خلال الرواية تشير الى ندرة الإمكانات على العيش: ثمة فضاء جغرافي ضيق ومحدود الرقعة، سنكتشفه مع بطل الرواية حين تجري مقارنته مع العاصمة البريطانية لندن، المدينة الشاسعة، والتي تضج بالحياة لبشر تراهم في زحامهم مسرعين ولا تتكرر رؤيتهم بسهولة كما يحدث هناك في رام الله، حيث الوجوه ذاتها، في إشارة خفية وضمنية لاستبداد الجغرافيا أيضاً. في «عتبة ثقيلة الروح» تتداخل تقنيات السرد فتمزج مايا مونولوغها الفردي، بما فيه من وقائع وأيضاً من بوح امرأة، بسرد آخر يقوم على استرجاع وقائع وأحداث وحتى حوارات، لكننا في الأحوال كلها نجد أنفسنا أمام كتابة روائية تقوم بصورة أساسية على التكثيف، خصوصاً أن الكاتبة تترك للوقائع الروائية أن تشير للأحداث، لكنها في الوقت ذاته تمنحها قوّة الرمز، وما يختزنه من دلالات مضمرة أعتقد أنها واحدة من أبرز ما حملته هذه الرواية، بل لا أبالغ إذ أقول إن جانباً مهماً من عمل مايا أبو الحيات في «عتبة ثقيلة للروح» يقع في تلك المستويات الرمزية لوقائع قدمتها الكاتبة باعتبارها جزءاً من الحكاية. هنا أيضاً ثمة ما لا بد من الإشارة له في بنائية الكاتبة للشخصية الرئيسة «سلمى»، والتي أعتقد أنها جاءت متوازنة الى حد كبير، إذ جمعت بين صورة وملامح المرأة الفلسطينية«الجديدة»، وبين الشخصية ذات البعد الدرامي ذي الظلال، وأعني هنا الشخصية غير المكتملة في صورة نهائية، بل تلك التي تتأثر بالواقع فتتطور معه، وتستجيب سلباً أو إيجاباً. هي شخصية يجوز لنا أن نقول أنها بؤرة الرواية ومركزها، ولكنها مع ذلك تفسح مجالاً لشخصيات الرواية الأخرى أن تلعب أدوارها لا باعتبارها «كومبارس» الحدث الروائي أو إكسسواراته التجميلية، ولكن كضرورات تقدم جوانب أخرى من الصورة تحقق حيويتها. في المشهد الختامي لرواية «عتبة ثقيلة الروح» تكتب مايا أبو الحيات المآل الأخير لحب عاصف في حالة غرق كامل في العادي والمألوف والشائع... حب ذهب وأخلى مكانه لشيء آخر مختلف: «عتبة ثقيلة الروح» رواية من «هناك» حيث تعصف السياسة بالمجتمع، فتقبض على العناوين الكبرى، وتلغي من الحدقات رؤية الروح الإنسانية لنساء ورجال، لهم هم أيضا أحزانهم «الصغيرة» التي لا تبتعد كثيراً عن الحدث السياسي، بل هي بصورة أو أخرى تنبع منه، من حجر الإحتلال الثقيل الذي يكرّر لعبة السقوط في بركة المجتمع الراكدة فتتكرر معها دوائر تتسع وتصغر لكنها في الحالات كلها تنبئ عن حراك مجتمعي، تمور في شرايينه حياة كاملة.