الأصل في الحضارات أنها اقيمت على جسور التواصل والتفاعل بين الشعوب، والنهضة الأوروبية التي أثمرت المعرفة والتقدم بنيت على توسيع نطاق المواصلات التي سمحت بتدفق رؤوس الأموال وتنقل الأشخاص. ومن غير المفهوم كيف أن حروب العصر مهما اختلفت مبرراتها تتبنى استراتيجيات تدمير وسائل التواصل، مثل الجسور والمرافئ والمطارات وبنيات تأمين الوجود. غير أن الأمر تصبح له دلالات سياسية ونفسية حين تعمد إسرائيل في حربها على لبنان، كما على أراضي السلطة الفلسطينية، الى تدمير الجسور لإحكام الحصار، متجاهلة أنها تهدم جسور أي تفاهم أو ثقة محتملين في حال ساد السلام العادل. بيد أنه في غياب الشروط الموضوعية لإقراره لا يمكن لأي حروب مهما كانت ضراوتها أن تحقق الحد الأدنى من الأمن المتبادل. وأكدت التجارب أن إسرائيل خاضت ولا تزال أكبر عدد من الحروب ضد جيرانها العرب من دون جدوى. ولم تخض أي حرب حقيقية لمكاشفة نفسها، ولهذا السبب، فإنها تعتمد منطق الوهم في خوض حروب بالوكالة عن الآخرين. تريد اسقاط حكومة"حماس"لأن الربيب الأميركي صنفها في خانة"الإرهاب"، وتسعى لانهاء"حزب الله"بالمبرر الأميركي ذاته، مع أن الأصل في الاملاءات الإسرائيلية أنها جاءت بايحاء من الدبلجة الإسرائيلية مثل من يسوق لدعاية ثم يصدقها ويتخذها مبرراً لتنفيذ سياسته. ومن ينظر الى خرائط الحرب المتشابكة بين ما يحدث في العراق أو لبنان أو فلسطين سيعاين الطبعات المنقحة للاملاءات التي تتبادل فيها الأدوار واشنطن وتل أبيب، والنتيجة واحدة، تعجز الإدارة الأميركية عن الاستمرار في تبرير الحرب على العراق وتبحث عن عدو افتراضي اسمه إيران، وتحبط مساعي تل أبيب في شرعنة الحرب ضد السلطة الفلسطينية فتنجذب الى لبنان. حين تشتعل الحرائق لأي سبب يكون التوجه نحو اطفائها سابقاً على البحث عمن أشعلها، غير أن السلوك الإسرائيلي درج على الجمع بين اسلوب لاقرار السلام من خلال امتلاك أكبر عدد من أوراق الضغط. غير انها في المنطق الإسرائيلي تراد لذاتها، اي شن العدوان والاستخدام المفرط للقوة، ما يعني انها حروب موجهة في جانب منها الى الرأي العام الاسرائيلي لإيهامه ان القوة وحدها تضمن له الأمن. أما تداعياتها اليوم على الشعبين الفلسطينيواللبناني فقد ثبت ان الحقائق على الأرض يمكن ان تحصد المزيد من أرواح وممتلكات الابرياء، لكنها لا تحقق اي نصر ولا تردع أي مقاومة، وتبقى مجرد فصول منزوعة من سياق استقراء الحقائق التاريخية. وأقربها تجريد الرأي العام الاسرائيلي من سلاح الثقة في المستقبل، أي الضغط على حكوماته لاستبدال المنطق الذي بني عليه ومن حوله الوجود الاسرائيلي، طالما انه مفلس واناني ولم يجلب غير الرعب وتحكم المؤسسة العسكرية في توجيه الأحداث الى درجة يصبح معها التشكيك في الديموقراطية الاسرائيلية مبرراً. أبسط قواعد الاستراتيجيات العسكرية يرى ان خوض الحروب خارج الحدود يقلص حجم الخسائر، ويحقق قدراً أكبر من المكاسب. غير انه في حال الحروب الاسرائيلية وان بدا موجهاً خارجها، قصف المنشآت اللبنانية وتدمير البنيات التحتية الفلسطينية، فإنه يختلف عن قواعد الحروب النظامية. ليست اسرائيل مؤهلة لخوض حروب الآخرين بالوكالة، طالما انها طرف في اشعال الحرائق. وفي أقل تقدير غير مهتمة بإخمادها. والمفارقة في الخطاب الاسرائيلي انه يتوجه الى الشعبين الفلسطينيواللبناني بلغة مزدوجة. الصواريخ والقنابل والاسلحة الفتاكة التي تدك الزرع والنسل. وبعض الكلام المعسول حول مواقف وقضايا من صميم اختصاصات السيادة. مع ان اسرائيل أول من لا يعير اهتماماً لمفاهيم الأمن والسيادة والسلام. ما يختزل المأزق الذي تردت إليه التطورات. غير ان مسؤولية الدول العربية في الاجتماع الوزاري في القاهرة لا تكمن في امداد الغريق بحبل النجاة وإنما انقاذ المنطقة برمتها من مخاطر كانت قائمة بحسابات اسرائيلية من دون ان تعني اسباب انفجارها انها كانت حتمية، فالاخطاء ايضاً تصنع حقائق التاريخ ولو على حساب المواقع الجغرافية.