يجري الحديث، منذ سنوات، في كواليس إدارات الطاقة في كبريات الدول المستهلكة للنفط، عن "الطاقة البديلة". والمقصود هنا التوصل الى الاستغناء عن النفط ومشتقاته تحسباً لأمرين: أولهما بلوغ أسعار هذا الوقود الثمين مستويات قد ترهق اقتصادات الدول المستهلكة، والثاني نفاد المخزون العالمي. وفي هذه الحال يكون البديل، إما الكهرباء أو الدفع النووي. ولكن الخبراء يؤكدون ان البديلين المذكورين لا يزالان حلماً بعيد المنال، على المدى المنظور. فالنفط الذي يعتبر عصب الاقتصاد العالمي، لن يفقد أهميته الحيوية بهذه السهولة. ويزيد هؤلاء ملمحين الى ان ما يحدث اليوم في العراق له علاقة كبيرة بثروة المنطقة النفطية، وكذلك بثروات المناطق المجاورة. والواضح في الوضع الحالي ان الواقع العالمي، من تخريب الخطوط العراقية، الى الوضع المتردي في فنزويلا، الى قضية شركة "يوكوس" الروسية ومتفرعاتها، مروراً بإمكانات الانتاج التي لا يمكن زيادتها الى ما لا نهاية، وبالمشاكل التي تعترض عمليات التكرير في الولاياتالمتحدة، وصولاً الى تزايد الطلب على النفط في الصين الخارجة من سباتها العميق، لا يوحي بأن أسعار هذه المادة الحيوية ستعود الى ما كانت عليه قبل حرب العراق، أي بحدود 30 دولاراً للبرميل. بل على العكس، فإن المؤشرات تبين ان هذه الأسعار هي الى ارتفاع. لقد دفع هذا الوضع كثيرين من الاخصائيين الى تخيل سيناريوهات مختلفة، مبالغة في التشاؤم، أغربها سيناريو يمكن متابعته على موقع "غلوبال غيريّاس" الذي يديره جون روب، الخبير العالمي المعروف. وهو يتصور موجات من العمليات الارهابية على الخطوط الكهربائية وعلى الأنابيب التي تسمح بحقن الماء للحفاظ على مستوى الانتاج في احدى مناطق الآبار الرئيسة في العالم، وبالأخص احدى أهم المحطات ما قد يدفع الى خفض مستوى الانتاج، ليصل سعر البرميل العالمي الى حدود 70 دولاراً. لكن الخبراء يستبعدون ذلك لأسباب عدة، ويدرجون هذا التصور في خانة المخيلات الخصبة. لكنهم يتفقون على نقطة أساسية: فبين تفاقم المخاطر الجيوسياسية وبين طلب متزايد على النفط الخام في مقابل عرض متصلب ومستقبل مجهول، أصبح الأمل شبه معدوم في العودة الى الأسعار القديمة، ومما يزيد الوضع تفاقماً الحاجات المتزايدة من النفط في الاقتصادات الغربية والآسيوية، والتي قد تتطلب في عام 2005، زيادة يومية في الانتاج تجاور 4 ملايين برميل يومياً، بأسعار قد تبقى طويلاً في حدود 40 دولاراً للبرميل، في حال التفاؤل. ما هي إذاً الأسباب التي تدعو الى التشاؤم، والتي تقف وراء ارتفاع أسعار النفط بحدود 30 في المئة منذ بداية السنة الحالية؟ ان هذه الأسباب، حسب الخبراء، ليست سياسية فقط، بل هي أيضاً اقتصادية وتقنية، بدءاً بفنزويلا، حيث فاز الرئيس هوغو شافيز في الاستفتاء الشعبي على بقائه في الحكم. فعلى رغم ان كبريات شركات النفط عوّلت كثيراً على هذا الفوز الذي قد يضع حداً لمناخ الشك وعدم الاستقرار، الا انه من الصعب ان تظهر نتائج الوعود التي أطلقها الرئيس الفنزويلي في المستقبل القريب. فما زالت اضرابات أواخر عام 2002 وبدايات عام 2003، عندما تم تسريح حوالى 18 ألفاً من المضربين، ماثلة في الأذهان. كما ان شافيز هو من أشرس المعادين للولايات المتحدة والمتعاطفين مع النظام الكوبي. وقام نظامه بزيادة الضرائب على الشركات على حقوقها في الاستثمار، ما ضيّق هوامش الربح وانعكس سلباً على الأسعار. وحتى لو تحققت آمال الشركات الأجنبية، وعلى رأسها شيفرون - تيكساكو العملاقة التي اقترحت استثمار حوالى 6 بلايين دولار لتحويل النفط الثقيل المستخرج في الشمال الشرقي لفنزويلا الى نفط خفيف يتماشى مع امكانات التكرير الأميركية، الا ان ذلك لن يدفع بالأسعار الى الانخفاض. وجلّ ما يأمله الأميركيون، أكبر زبائن فنزويلا، هو هدوء نسبي يرفع كمية الانتاج كي يستقر السعر. ذلك ان الولاياتالمتحدة تستورد حوالى 4.1 مليون برميل يومياً من هذه الدولة، وقد لاحظ المراقبون ان اللهجة الأميركية تجاه الرئيس شافيز تغيرت ايجاباً، فواشنطن راهنت على نجاحه الذي دعمه ارتفاع أسعار النفط التي وعد الرئيس الفنزويلي باستخدام فائضها لتمويل البرامج الاجتماعية. فاستقرار الأسعار، ولو على ارتفاع، هو أخف حدة من عدم الاستقرار الذي قد ينخفض معه الانتاج، كما يحصل اليوم. والمعروف ان الرئيس جورج بوش، الذي يعرف جيداً الأوساط التكساسية البترولية، يعول على دعمها في استثمارات جديدة في هذا البلد الأميركي النفطي. أما بالنسبة الى المملكة العربية السعودية، المصدر الأول للنفط في العالم، فإن زيادة الانتاج بحدود 3.1 مليون برميل يومياً تتطلب أشهراً عدة لوضعها موضع التنفيذ. كما ان الكميات الزائدة هذه هي من النوع الثقيل الذي لا يتماشى مع امكانات التكرير في المحطات الأميركية الملتزمة قوانين صارمة حول الانبعاثات والتلوث. لكن الجميع يثني على الجهود التي تقوم بها المملكة لخفض الأسعار، ليس آخرها استئجار "آرامكو" ثلاث ناقلات عملاقة وتحديث الآبار في مناطق عدة للانتاج، واعادة فتح مناطق انتاج كان جرى التخلي عنها سابقاً. لكن الوضع السعودي يبقى الأكثر تفاؤلاً، على رغم مخاوف المستثمرين من توسع رقعة العنف في المنطقة ووصوله الى "مثلث الذهب الأسود" على الخليج. في الولاياتالمتحدة، المستهلك الأول للنفط في العالم، بدأت الأزمة النفطية تظهر بوضوح، مع انخفاض المخزون الوطني من النفط الخام والوقود اليومي. لكن ذلك لم يؤثر في عادات المستهلكين، واستمر استهلاك النفط اليومي وفي شكل متزايد، ما دفع بالأسعار صعوداً. كما ان انخفاض امكانات التكرير، حيث جرى اقفال منشآت كثيرة، ساهم في تأجيج هذه الأسعار. ودفعت زيادة الاستهلاك بنسبة 5 في المئة تقريباً المنشآت الى العمل بحدود 95 في المئة من امكاناتها. فارتفعت الأسعار في محطات التوزيع العامة، وارتفع معها سعر النفط الخام. خطر آخر بدأ مسلسله يظهر منذ بضعة شهور، أثّر جدياً في مخاوف الأسواق النفطية، ويتمثل بالغموض المحيط بشركة "يوكوس" الروسية العملاقة، بعد توقيف مؤسسها ميخائيل خودوركوفسكي وما نتج من ذلك على مدى الأشهر الأخيرة. وزاد هذا الغموض الضغط على أسعار النفط صعوداً. كما ان المخاوف من وقف الانتاج خصوصاً وقف التصدير البالغ 4.1 مليون برميل يومياً من جانب العملاق الروسي، الذي تدفع به مراقبة الضرائب الى اعلان افلاسه، هي من التوقعات الممكنة حالياً. ويؤكد الخبراء ان شركات النفط الروسية الأخرى لن تتمكن من سد العجز في الانتاج والتصدير الذي قد ينتج من ذلك. وقد نسجت حول الموضوع سيناريوهات كثيرة، من بينها اقتراح قدمه تجمع شرق أوسطي لشراء حصص خودوركوفسكي وشركائه في الشركة العملاقة، وما يحكى عن التباعد بين "يوكوس" و"سيبنفت"، وهي سيناريوهات تهدف الى الخروج من هذه الأزمة المتفاقمة والغامضة لكنها لم تقنع السوق العالمية، خصوصاً أمام صمت الكرملين المشبوه. زيادة على ذلك، شهدت بورصة لندن لتأجير ناقلات النفط ارتفاعاً جنونياً في الأسعار، زادتها تأزماً احالة نوع معين من الناقلات الى التقاعد، وعجز مصانع السفن الآسيوية عن تلبية الطلب المتزايد على بناء ناقلات. والمطلوب هو حوالى 15 ناقلة اضافية لتأمين نقل مليون برميل اضافي في اليوم. كما ان السوق المالية اللندنية، المعروفة بمضارباتها العالمية في مختلف الأسواق الاقتصادية، تشهد حالياً هجوماً رهيباً على الاستثمارات النفطية، التي ارتفعت الى مستويات قياسية. كما ان توخي الربح السريع وتوزيع الأرباح على الشركاء والمستثمرين دفعا بالشركات العملاقة الى ارضاء مساهميها بدلاً من الاستثمار في تحسين الانتاج والبحث عن آبار جديدة. ضمن هذه المخاوف المتزايدة، وفي وضع أمني متفجر، وامكانات انتاجية محدودة، تندرج الحالة العراقية. فالوضع ما زال بعيداً جداً عن الأحلام التي كانت تعد بإنتاج عراقي قد يصل الى 8 ملايين برميل في اليوم. فالوضع المزري للمنشآت النفطية زاد سوءاً بعد سقوط صدام حسين بفعل السرقة والتخريب. كما ان اعادة اطلاق عجلة الانتاج للصناعة النفطية في هذا البلد، والتي يعوّل عليها في اعادة الاعمار، تصطدم اليوم أكثر من أي وقت مضى بالوضع الأمني المتدهور. كما انه، وبعد أكثر من 16 شهراً على الغزو الأميركي للعراق، و"الهدية" المباشرة ومن دون أية مناقصة، لإحدى شركات مجموعة "هاليبيرتون"، التي كان يديرها نائب الرئيس الأميركي ريتشارد تشيني، التي قدمت لها من قبل القيمين الأساسيين على الوضع هناك، وهي عبارة عن عقد بقيمة 4.1 بليون دولار لإعادة اصلاح المنشآت النفطية وتجديدها كلياً، كما يطالب به خبراء الأممالمتحدة المسؤولين عن مراقبة مداخيل النفط العراقية، ما زالت كلاماً بكلام. ويبرر المسؤولون العراقيون ذلك بالخوف المتزايد من العمليات الارهابية. لكن بعض العسكريين المسؤولين عن حماية المنشآت النفطية وخطوط النقل والتصدير يشكون من قلة عددهم، ومن اخفاق المسؤولين الأميركيين في تأمين الدعم الكامل لهم، أسلحة وعتاداً ومروحيات وطرادات بحرية حديثة ورجالاً، كما وعدوهم سابقاً. وهذا ما يدفع المستثمرين الى التريث ويبقي، بالتالي، المخزون العراقي الضخم 11 في المئة من المخزون العالمي من دون استثمار، كما يعرقل عمليات التصدير الحالية. وهو وضع لا يتفاءل الخبراء بتحسينه كثيراً في المستقبل القريب، ما ينعكس أيضاً على الأسعار. زيادة على ذلك كله، أظهرت الدراسات ان الغرب يحتاج الى مزيد من الوقود من سنة الى أخرى، أي الى مزيد من الانتاج في الدول المنتجة. لكن ما يخيف المراقبين، هو النمو الصيني الرهيب، في وقت تشهد السوق النفطية اضطراباً لم تشهده منذ حوالى ثلاثين عاماً. وكذلك سوق المواد الأولية، حيث بدأ نقص ملحوظ يظهر في بعض هذه المواد. كما ارتفعت في شكل جنوني كلفة النقل البحري. والواضح ان أحداً لم يكن يتحسب لوضع كهذا، لأن أحداً لم يكن ينتظر خروج المارد الأصفر من قمقمه في هذا الشكل المفاجئ. وعلى رغم ان نمو الاقتصاد الصيني قد أعلن عنه قبل سنوات، الا هذا التطور السريع حصل فجأة ومن دون انذار ابتداء من النصف الثاني من عام 2003، تماماً بعد انحسار مرض السارس المتفشي. فتضاعفت مثلاً واردات الصين من القطن أكثر من الضعفين في عام واحد، وكذلك من الزنك والنيكل والحديد. وأصبحت الصين اليوم المستهلك الأول للمواد الأولية في العالم، بشكل أضحت الأسواق العالمية تنتظر باهتمام أي قرار تتخذه بكين. وكانت هذه الأخيرة، خوفاً من مخاطر هذا التطور الاقتصادي الهائل، حددت النمو السنوي في حدود 7 في المئة فقط، وهي تجد صعوبة كبيرة في التقيد به، لكن هذا القرار المهم استقبل بارتياح كبير في عواصم الدول الكبرى وأسواقها، لأنه وضع حداً لارتفاع أسعار المواد الأولية. كما ان النمو الاقتصادي المتزايد يتلازم مع طلب كبير على المشتقات النفطية. والمعروف ان حاجات العملاق الصيني الى هذه المواد هي في تصاعد مستمر، ما يطرح السؤال الآتي: كيف ستتمكن الدول المنتجة للنفط من تأمين هذه الزيادة الهائلة في الانتاج لتأمين متطلبات السوق الصينية الضخمة، التي تتلازم مع انطلاقة متوازية جديدة للاقتصادين الأميركي والياباني؟ في مثل هذه الاجواء يبقى من الصعب الحديث عن امكان توافر كميات كبيرة من النفط في الأسواق العالمية، تكفل خفض الأسعار. ويؤكد الخبراء ان عصر النفط بأسعار الماضي أصبح أمراً صعب المنال. لذلك، فإن النقاشات التي تدور اليوم، وفي شكل يدعو الى القلق، هي مجرد محاولة لرسم حدود منظورة لانحسار العرض وتزايد الطلب، وهو أمر يفضل المستهلكون عدم التفكير به. وبينما يحدد الأكثر تشاؤماً منهم هذا الموعد بحلول عام 2010، الا ان أكثرية الخبراء تظن انه لن يحل قبل منتصف القرن الحالي. وعلى رغم هذا التفاؤل، يتساءل هؤلاء عما قد يحصل في ذلك الوقت، مع ان المخزون العالمي المعروف حالياً يقارب الألف بليون برميل. وهم يعوّلون كثيراً على منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية التي تختزّن في طبقاتها الأرضية كميات هائلة غير واضحة المعالم بعد، قد تصل الى 700 بليون برميل اضافية. ثم على العراق الذي يمتلك مخزوناً هائلاً أيضاً. وفي هذا المجال يؤكد بعض الخبراء ان التشاؤم في القدرات الانتاجية ليس في محله. لكن التشاؤم الصحيح يتعلق أكثر بالأسعار. ان السؤال البديهي المطروح حيال أمة النفط هو: هل ان الوجود الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، والخليج العربي، والمناطق المجاورة، ومحاولة الوجود في محيط جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، هو فقط لإعادة الهدوء الى أفغانستان، واسقاط نظام صدام حسين دفاعاً عن الديموقراطية، ومحاربة الارهاب والدفاع عن القيم، وخدمة مجانية لإسرائيل وأعداء الاستقرار