منذ عشرات السنين ومشاريع التسوية للقضية الفلسطينية تتعرّض للانتكاس والرفض، تارة من الجانب الاسرائيلي وطوراً من الجانب الفلسطيني - العربي، وفي أحيان كثيرة من الجانبين معاً. وآخر النماذج كان خطة ارييل شارون للفصل أحادي الجانب، وخلاصته: الانسحاب الكامل من غزة وإخلاء جميع المستوطنات فيها عددها 21 وسكانها 7500 مستوطن، وابقاء الحدود المصرية مع غزة تحت السيطرة الاسرائيلية. وكذلك الانسحاب من أربع مستوطنات في شمال الضفة، بهدف ربط منطقة جنين بمنطقة نابلس في شمال الضفة. وكان واضحاً في خطة شارون رغبة اسرائيل في ضم قسم من الضفة الى الدولة العبرية من دون تحديد نسب رقمية جغرافيةيستوعب معظم المستوطنين في الضفة وعددهم في حدود مئتي ألف مستوطن. فأين أصبحت خطة شارون الآن: اسرائيلياً ودولياً؟ ولماذا تطرح اسرائيل الآن خطة للتسوية النهائية بديل التسوية المرحلية، كما صاغها رئيس مجلس الأمن القومي الاسرائيلي الجنرال غيورا إيلاند. وما هي الخطوط الكبرى لهذه الخطة التي جرى التداول في شأنها داخل اسرائيل ومع المراجع الدولية الأميركية والأوروبية؟ أولاً: خطة شارون المرحلية انطلاقاً من كونه رجلاً عسكرياً يتعاطى الاستراتيجية والتكتيك، سعى شارون الى تسويق خطته المرحلية للفصل أحادي الجانب، ومن أهدافه: - الخروج من الأفق المسدود للمواجهات الدموية بين الاسرائيليين والفلسطينيين. - الالتفاف على خريطة الطريق بما يمكن اعتباره بداية تنفيذ لها من الجانب الاسرائيلي. - الحصول على دعم دولي أميركي - أوروبي تمثل في رسالة الرئيس بوش لشارون وفي اعتبار اللجنة الرباعية هذه الخطة بمثابة مدخل الى تنفيذ خريطة الطريق. - الوصول، في ظل أوضاع انتخابية أميركية إلى الحسم في موضوعين مركزيين بالنسبة الى الدولة العبرية: أولهما: كسر "تابو" حدود 1967 بتفسير جديد للقرار 242. وثانيهما: اعلان رفض عودة اللاجئين الى الدولة العبرية. وهذا ما أكدته رسالة الرئيس بوش. ولكن المفاجأة كانت فشل شارون في استفتاء حزبه ليكود على خطته. والسؤال الأول الذي لم يجد جواباً حتى اليوم هو: هل أخطأ شارون أم خُدع في موضوع هذا الاستفتاء؟ بمعنى آخر: هل كان شارون واثقاً أكثر من اللزوم بنفسه وبقدرته على تجيير ليكود خلفه؟ وهل خدعه بنيامين نتانياهو فوافق على الخطة شكلياً قبل سفر شارون الى واشنطن ثم عاد ليعارضها داخل صفوف الحزب والمستوطنين؟ في هذا الموقف الصعب يجد شارون نفسه مجبراً على تغيير أمور عدة: أولها: تغيير فلسفته في الحياة التي قامت منذ أكثر من ثلاثين عاماً على مبدأ الاستيطان في ما يسميه "أرض اسرائيل". وها هو الآن في عرف المستوطنين ينقض هذا المبدأ. ثانيها: تغيير أسلوب تعاطيه مع حزبه ليكود. فهو من جهة كسياسي - عسكري لا يستسلم بسهولة للعقبات التي تواجهه، ويحاول، كما قال عنه الرئيس بوش، الالتفاف عليها وفي هذا اشارة الى الدفرسوار الذي نفذه غرب قناة السويس وأدى الى تطويق الجيش المصري الثالث في حرب رمضان 1973. وهو من جهة ثانية غير قادر على الاستهانة بنتائج الاستفتاء وبموقف حزبه منه، ما يسقط منه وعنه الصدقية السياسية الديموقراطية في الحياة السياسية والحزبية في اسرائيل. وكما يقول حاييم رامون: "في الاستفتاء خسر شارون ليكود وخسر حزب العمل". وأخطر من ذلك قوله: "إما ان يدفن شارون ليكود وإما ان يدفن ليكود شارون وليس هناك من حل وسط". لكن شارون كان يحاول ان يخرج من مأزقه السياسي قبل ان يجد نفسه أمام مأزق عسكري جديد يتمثل بمقتل 11 من جنوده في غزة حتى يوم الخميس الماضي. وهذا الحدث الأمني جعل الرأي العام داخل اسرائيل ينقسم في اتجاهين: - المتطرفون اليمينيون الذين دعوا الحكومة الى شن حرب شاملة على الحركات الاسلامية وعلى السلطة، بما في ذلك الأماكن التي يختبئ فيها زعماء هذه الحركات، وفي هذا اشارة من شارون نفسه الى احتمال ضرب هذه القيادات خارج فلسطين. - جماعة اليسار الذين وجدوا في الحدث تأكيداً لمقولتهم بضرورة الانسحاب الفوري من قطاع غزة، وتمسكوا بقول وزير الدفاع شاؤول موفاز بأن "المستوطنات في غزة هي خطأ تاريخي وليست داخل خريطة المصالح الأمنية لإسرائيل". لقد تعقدت مهمة شارون كثيراً حيث تمازجت فيها أمور عدة عليه القيام بها في آن واحد: الرد على التحدي العسكري للمقاومة من جانب، والسعي لتعديل خطته الأصلية من جانب ثان، والحرص على الا يمس هذا التعديل جوهر الخطة بسبب تمسك اللجنة الرباعية بها وثناء الرئيس بوش عليها من جانب ثالث، والعمل على استيعاب حزب ليكود من جانب رابع، والسعي الى الحصول على تأييد الحكومة من جانب خامس، وطرح احتمال الاستفتاء على الاسرائيليين من جانب سادس، او الدعوة الى انتخابات مبكرة وتأليف حكومة ائتلافية، والقيام بمغامرة جديدة من جانب سابع. هذا، مع العلم ان حتى غلاة الليكوديين يدركون أنهم ملتزمون حالياً بأمرين: الأول: تقديم خطة سياسية لا مفر منها. الثاني: تنازلات اقليمية يقولون عنها انها مؤلمة لهم والكثير منها عائد الى ارتكاب أخطاء تاريخية بحسب موفاز، وشارون نفسه ليس غريباً عن هذه الأخطاء. ثانياً: خطة الجنرال غيورا ايلاند لقد كلّف شارون الجنرال غيورا ايلاند رئيس مجلس الأمن القومي الاسرائيلي وضع تصور جديد بمثابة تعديل لخطته للفصل أحادي الجانب من غزة وبعض الضفة. وما من شك في ان الجنرال ايلاند بصفته ومركزه في القيادة السياسية - العسكرية في اسرائيل يمثل شخصية مركزية في رسم ملامح الاستراتيجية الاسرائيلية على المديين القريب والبعيد. فإذا كانت خطة الفصل بأساسها وتعديلاتها تمثل المدى القريب فماذا عن المدى البعيد؟ بمعنى آخر هل هناك خطة اسرائيلية للحل الشامل أكثر دقة من الخطة المرحلية كما رسمها الجنرال ايلاند وطاقمه؟ وما هي الخطوط العريضة لهذه الخطة؟ لقد نشرت صحيفة "يديعوت احرونوت" في 6/5/2004 الخطوط العريضة للخطة، وهي خطوط تلقي ضوءاً كاشفاً وكافياً لإبراز تصوّر شارون وطاقمه الحاكم عن التسوية النهائية الاسرائيلية - الفلسطينية. لقد اكتفت خطة شارون ورسالة بوش بتأكيد أمور جوهرية ضم التجمعات الاستيطانية الكبرى ولكنها لم تدخل في الأرقام. فما دام الصراع الأساسي حول الأرض الجغرافيا وحول "ما لنا ولكم" لا بد من تحديد كمية ونسبة الأرض التي ترى اسرائيل ضرورة اقتطاعها من الضفة الغربية وما هو المقابل لها لمصلحة الجانب الفلسطيني؟ لقد كان مشروع الرئيس بيل كلينتون يستند الى مبدأ اقتطاع نحو 3 في المئة من الضفة لاستيعاب المستوطنين في تجمعات كبرى. فما هو البديل الذي يقترحه الجنرال ايلاند؟ وتتضمن الخطة اخلاء اسرائيل قطاع غزة بالكامل والانسحاب منه مساحته 363 كلم2 وتوسيع هذا القطاع المكتظ بالسكان ربما النسبة الأعلى في العالم جغرافياً بزيادة مساحته ضعفين الى حدود ألف كيلومتر مربع. ويتم هذا التوسع او التوسيع بتبادل أراضٍ بين مصر واسرائيل، فيضاف الى غزة من الأراضي المصرية مستطيل طوله 30 كلم × عرضه 20 كلم على الحدود الفلسطينية - الاسرائيلية مع مصر أي ما يعادل 600 كلم2، وضمنه الواجهة البحرية حيث أقيمت في الماضي قبل الاتفاق المصري - الاسرائيلي مستوطنتا يميت وبيتاح رفياح. وهكذا تصبح مساحة القطاع 963 كلم2. وفي مقابل ذلك تحصل مصر من اسرائيل على ما يعادل 200 كلم2. يضاف اليها نفق بري يربط العراق والسعودية والأردن ويقطع اسرائيل قرب ايلات ويتجه الى البحر المتوسط وتحديداً الى ميناء غزة ومطارها الدولي قرب رفح. على ان يخضع هذا النفق للسيادة المصرية حتى ضمن الأراضي الاسرائيلية أي على القسم الممتد من حدود الأردن الى حدود مصر في منطقة ايلات. وطبعاً عبر الأراضي المصرية وعبر الأراضي الملحقة بغزة من جانب مصر. وهكذا تحصل كل من العراق والسعودية والأردن على منفذ الى البحر المتوسط. أما بخصوص الضفة الغربية مساحتها 5600 كلم2، فيطالب مشروع ايلاند في الحل النهائي بنسبة 11 في المئة من الضفة اي ما يعادل 600 كلم2 تقريباً ويعتبر ان هذه المساحة "كافية" لضم الكتل الاستيطانية الست يبقى للعرب من الضفة خمسة آلاف كيلومتر مربع في حين كان مشروع كلينتون يطالب بضم 3 في المئة فقط أي ما يعادل 168 كلم2 فقط يقابلها تبادل للأراضي مع اسرائيل في منطقتين: على الحدود الشرقية للقطاع وعلى الحدود الغربية لمنطقة الخليل. وتقترح خطة ايلاند وضع وصاية مصرية - أردنية - أميركية على المناطق الفلسطينية ربما لفترة معينة. ويجرى بعد ذلك توقيع اتفاق في مؤتمر سلام يعقد في مصر برئاسة الرئيس مبارك وحضور الرئيس الأميركي وبعض زعماء العالم. هذه هي بعض ملامح المأزق الحالي لمشاريع التسوية بين اسرائيل والفلسطينيين، المرحلية منها والنهائية. وفي الوقت الذي يجري فيه الحديث عن فصل أحادي الجانب من غزة، لا بد من التركيز على الرؤية البعيدة للمشروع الاسرائيلي الذي يرتكز على اعطاء الفلسطينيين من حساب مصر الأرض والسيادة. ومهما كانت الاغراءات البديلة لتبادل الأراضي فإن الطرح الاسرائيلي الحالي يؤكد للعرب وللفلسطينيين خصوصاً، سواء قبلوه أم رفضوه وهو الأرجح كم ان الأخطاء الاستراتيجية كانت كبيرة وقاتلة في تعامل الفلسطينيين مع مشروع الرئيس كلينتون