كان نهاراً بارداً من نهارات شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي، وكانت المدينة تستكمل وتيرة حياتها، حين ظهرت تلك المرأة وهي تبتسم وتلوح بيدها لدى اقترابها من الباص المكتظ بالركاب، والذي توقف على تقاطع السكة الحديد في مدينة مزدوك شمال أوستيا في قلب القوقاز. وحين رفض السائق فتح الأبواب حاولت المرأة أن تنبطح تحت العربة. ولدى قيامها بحركتها تلك صرخت: "الله أكبر" ودوى صوت انفجار كبير! أدت العملية الانتحارية التي نفذتها تلك المرأة إلى مقتل 17 شخصاً معظمهم من العسكريين الذين كانوا يتوجهون إلى قاعدة بروهالدني، وهي القاعدة العسكرية الأساسية للعمليات الروسية في جمهورية الشيشان. كانت تلك العملية واحدة من سلسلة عمليات انتحارية نفذتها نساء شيشانيات، ولعل معظم العمليات الانتحارية التي شنها شيشانيون نفذتها نساء. كان الظهور الأول للعمليات الانتحارية لنساء شيشانيات في العام 2000، ثم برزت في تشرين الأول اكتوبر العام 2002، خلال عملية احتجاز رهائن مسرح موسكو التي شاركت فيها أكثر من عشرين سيدة شيشانية قتلن جميعاً كما باقي الخاطفين لدى اجتياح قوات الأمن الروسية للمسرح. أما عملية مزدوك فكانت الهجوم الانتحاري الثالث في الشيشان أو في محيطها في خلال أقل من شهر والذي تنفذه سيدة. وبنظرة سريعة إلى العام 2003 يمكن ملاحظة سلسلة من الهجمات نفذتها شيشانيات، من مسرح موسكو إلى تفجير قطارين على الحدود الشيشانية الروسية وصولاً إلى عمليات تم تنفيذها داخل الشيشان. حيال الهجمات الانتحارية النسائية سارع الكرملين إلى ربط هذه الموجة بالإرهاب العالمي، واعتبر مسؤولون روس من وصفوهن ب"الأرامل السود" بأنهن استيراد شيشاني مزيف فرضته جماعات إرهابية، مذكرين بعمليات انتحارية نفذتها فلسطينيات ضد اسرائيل. ويقول المدعي العام الروسي فلاديمير اوستينوف معلقاً على تفجير مزدوك: "كل تلك الهجمات الإرهابية هي حلقات في سلسلة انبثقت خارج حدودنا". في المقابل، يستبعد بعض المسؤولين الروس وجود تأثيرات خارجية. ويقول خبراء في الإرهاب الدولي إن تنظيم "القاعدة" وسع نشاطاته إلى حدود القوقاز. لكن المراقبين يعتقدون بأن الشيشانيين لم ينضووا تحت راية فلسفة الجهاد العالمي التي أطلقها تنظيم "القاعدة"، ولكنهم يقاتلون في إطار صراع محلي، عناوينه الأرض المحتلة والاختلافات العرقية. "كما في فلسطين نحن نرى قطاعات متزايدة من الشعب الشيشاني بمن فيها من نساء وأطفال، ينخرط في تنظيمات إرهابية"، يقول الكسندر اسكندريان، رئيس المركز الأرمني للدراسات القوقازية. وعلى رغم أن عدد الانتحاريات النساء في فلسطين أو الشيشان لا يزال قليلاً، إلا أن أجهزة الاستخبارات الأميركية أبدت في أكثر من مناسبة قلقها من هذه الظاهرة. إذ تتخوف هذه الأجهزة من أن يعمد تنظيم "القاعدة" إلى تدريب نساء لشن هجمات إرهابية كوسيلة لاستعادة عنصر المفاجأة في الهجوم. عنف وخوف لا يزال الغموض يكتنف حادثة مسرح موسكو حين شاركت مجموعة من الشيشانيات في احتجاز حوالي 800 رهينة في تشرين الأول 2002، وانتهت عملية احتجاز الرهائن حين اجتاحت قوات الأمن الروسية المسرح وقتلت الخاطفين الخمسين إضافة إلى 129 رهينة بالغاز. وبقيت التساؤلات حول أسباب إعدام القوات الروسية جميع الشيشانيين في الموقع على رغم أن الغاز أفقدهم وعيهم، تلوح من دون أجوبة حقيقية. فمن وجهة نظر خبراء في الأمن، فإنه ليس من المعقول ألا تقدم الشرطة الروسية على اعتقال المتهمين واستجوابهم، خصوصاً أنهم كانوا في حال من الإغماء جراء كميات الغاز التي أطلقت في ساحة المسرح لإفقادهم وعيهم. وتثبت هذه الحادثة وكيفية معالجة القوى الأمنية الروسية لها الاعتقاد بأن قراراً اتخذ بقتل جميع الخاطفين، خصوصاً النساء. بل أن العديد ممن يتابعون القضية الشيشانية في موسكو يشيرون علناً إلى أن السلطات الروسية لم تكن تريد لهؤلاء النساء أن يروين أبداً حكاياتهن في المحكمة أو في أي مكان آخر. لقد قتلن كي يصمتن ولا يبحن بالرعب الذي قادهن إلى ارتكاب فعل يائس مثل هذا. الرهائن الناجون أكدوا في مقابلات صحافية أجروها لدى انتهاء محنتهم أن خاطفيهم من النساء تحدثن عن حياتهن المحطمة ومعاناتهن الشخصية. تقول آلا ليلشينكو، وهي محاسبة روسية وكانت واحدة من الرهائن الناجيات، إن الخاطفة التي كانت تجلس قربها روت لها أن شقيقها قتل العام الماضي وأنها فقدت زوجها قبل ستة أشهر من حادثة المسرح، "قالت لي ليس لدي شيء لأخسره. فقد فقدت جميع عائلتي. سأواصل هذه الطريق على رغم أنني مقتنعة أنها ليست الطريق الأسلم". وتشير سفيتلانا اليفا وهي خبيرة عملت في جمعيات تعنى بالمضطهدين في القوقاز إلى تعمق مشاعر المرارة واليأس لدى الشيشانيات اللواتي إما كن عرضة للاعتقال والضرب والاعتداء وإما فقدن عائلاتهن وأردن بالتالي الانتقام. "لقد انشطر شيء من قلب المجتمع الشيشاني"، تقول إيرينا زيفيسكايا، وهي خبيرة مركز الدراسات الشرقية في موسكو. "لم يكن معروفاً عن المرأة الشيشانية انخراطها في القتال. تقليدياً، فإن الشيشانيات هن رأس العائلة وصانعات السلام في المجتمع الشيشاني. لا بد أن أموراً كثيرة تغيرت بشكل جذري لدى رجال الشيشان كي يقبلوا بهذا الدور المريع للنساء في المعركة". في عملية تفجير مقر حكومي في زمانسكوي في الشيشان كانت هناك امرأة على الاقل من بين الانتحاريين، وأدى ذلك التفجير إلى مقتل 59 شخصاً في شهر أيار مايو الماضي. وبعد أيام ارتدت سيدتان أحزمة من المتفجرات وحاولتا اغتيال القائد الشيشاني المعين من قبل موسكو أحمد قاديروف خلال احتفالات دينية قرب العاصمة الشيشانية غروزني. وقتلت كلتا السيدتين إضافة إلى خمسة عشر شخصاً سقطوا في العملية. وتظهر هذه الحوادث أن موجة الانتحاريات النساء ليست مجرد انحراف موقت. "في ثقافتنا، أن تجتمع فكرة الانتحار مع المرأة في المعركة أمر غير مألوف"، تقول زينب غاشيفا الناشطة في تحالف للنساء الشيشانيات والروسيات المناهضات للعنف، "لكن النساء الشيشانيات اللواتي فقدن كل ذكور عائلاتهن وكل الأسباب التي تدفعهن للعيش يمكن أن يرين في ذلك متنفساً لهن. إن حقيقة أنهن يهاجمن أهدافاً روسية يظهر أنهن يلمن الروس على تحطم كل ما يعنيهن في الحياة". على مدى أكثر من قرنين خاض الشيشانيون صراعاً طويلاً ومريراً مع روسيا من أجل الاستقلال. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي أدت حربان شنتهما موسكو على المقاتلين الشيشان إلى مقتل الآلاف وتهجير أعداد كبيرة من الشيشانيين، وسط دمار شامل في المدن والقرى. وتقول منظمات أهلية أن مئة شيشاني على الأقل يختفون شهرياً خلال العمليات الأمنية الروسية المستمرة حتى اليوم في الجمهورية. آنا بوليتكوفسكايا وهي صحافية روسية غطت حرب الشيشان تقول إن الكرملين يدعم خطة سلام تتضمن تبنياً لاستفتاء في آذار مارس المقبل وهي خطة فشلت في التخفيف من اليأس الذي تشعر به المرأة الشيشانية. حقوق الانسان ليست مصانة أبداً في الشيشان. وقبل الاستفتاء وعد الناس انهم اذا صوتوا لدستور جديد فإن اقرباءهم الذين اعتقلوا في حملات أمنية قد يعودون. لكن أيا ًمن ذلك لم يحدث. وينشغل الناشطون في الدفاع عن القضية الشيشانية بتحليل ظاهرة الانتحاريات التي يرون فيها خرقاً كبيراً لتقاليد سادت المجتمع طوال قرون. إذ ترى ليبكان بازيفا وهي ممثلة منظمة حقوقية في جمهورية انغوشيا المجاورة للشيشان، أن العمليات الانتحارية تناقض كل المفاهيم والتقاليد في الحياة الشيشانية. "بداية انها عمليات مخالفة لتعاليم الإسلام، وهي ضد المفاهيم التي نشأت وتربت عليها المرأة الشيشانية التي انحصر دورها في حماية قيم العائلة وفي تعليم الأولاد. ولطالما اعتبرت المرأة الشيشانية بأنها مخلصة لكل شيء حي في مجتمعنا. لقد نشأنا على أن الانتحار خطيئة وأنه جريمة ضد الله". في جمهورية تعاني خرقاً منتظماً لحقوق الانسان بما في ذلك التعذيب والاختفاء والاعدامات الجماعية على يد القوات الروسية، تحذر المنظمات الانسانية من أن وضع المرأة داخل الشيشان وحولها هو من أكثر الأوضاع سوءاً في العالم. وتعتبر منظمة العفو الدولية أن الوضع في الشيشان يطاول حياة الجميع لكن النساء بشكل خاص هن أكثر تعرضاً لهذه الخروقات، التي تشمل اعتقالات عشوائية وتعذيباً واغتصاباً. ولعل الحادثة الشهيرة التي أدت إلى توقيف الضابط الروسي الكبير يوري بودانوف ومحاكمته جراء اغتصابه وقتله فتاة شيشانية في الاعتقال نموذج بسيط لما يحدث بعيداً عن الأنظار في ساحات الجمهورية التي تسيجها القوات الروسية بقبضة حديدية. المنظمات الحقوقية اعتبرت أن الخوف من الاغتصاب من قبل الجنود الروس في الشيشان أمر يقض مضاجع الكثير من العائلات، خصوصاً تلك التي تضم نساء وفتيات ما يجعل هذه العائلات تخفي نساءها. وفي جمهورية انغوشيا التي تشترك في الانتماء العرقي مع الشيشان، يعيش أكثر من مئة وخمسين ألف شيشاني في مخيمات منذ الحرب الروسية الثانية ضد الشيشان عام 1999، لكن حتى في المخيمات تواجه الشيشانيات ظروفاً صعبة، حسب راشيل دينفر من منظمة حقوق الانسان، "إن حقيقة أن العديد من الشيشانيات فقدن أزواجهن وأباءهن وأشقاءهن الذين تم اعتقالهم أو ربما اختفوا ببساطة، تعني أن على هؤلاء النساء تولي إطعام العائلة خلال محاولتهن العثور على رجالهن وأبنائهن واشقائهن". السلطات الروسية أوقفت قبل مدة المساعدات الغذائية لمخيمات اللاجئين الشيشان، تاركة الأمر للمنظمات الدولية. ونظراً إلى هذا الوضع المأسوي، فليس من الصعب تفهم لماذا يمكن للشيشانيات هذه الأيام أن يكسرن التقاليد. "ربما هن نساء أعدم أقرباؤهن بشراسة على يد القوات الروسية في الشيشان. حيث العائلة هي الوحدة الاجتماعية الأهم بالنسبة إليهن". تقول دينفر. كلام مختلف وسط الحديث عن يأس عارم أطلق ظاهرة نساء الموت المتشحات بالسواد، أجرت الصحافية الروسية لوليا لوزيك تحقيقاً عن الانتحاريات الشيشانيات، عملت على إعداده على مدى عام، وشمل سبعاً وعشرين امرأة، إما فجرن أنفسهن بأحزمة من القنابل أو قتلن على يد القوات الروسية. وبحسب الصحافية الروسية فإن واحدة من عشر انتحاريات تابعت سيرتهن، قتلت نفسها بسبب قناعتها، أما التسع الأخريات فتم اعطاؤهن أدوية. وتؤكد لوزيك أن كافا باريافا، وهي انتحارية لم يتجاوز عمرها السبعة عشر عاماً، كانت تربطها علاقة عاطفية بقائد الحرب الشيشاني عربي بارييف. وتنقل لوزيك عن أهالي قرية الانتحارية كافا أن بارييف أعطاها مخدرات كي لا تتراجع عن تنفيذ عمليتها في اللحظة الأخيرة. وتصنف لوزيك الانتحاريات اللواتي لاحقت سيرهن ضمن مجموعات مختلفة. ففي حالتين كانت الانتحاريات شابات جميلات ينحدرن من عائلات إسلامية ملتزمة دينياً. وفي حالات أخرى كانت النساء اكبر عمراً وكن على علاقة عاطفية بمقاتلين شيشان وبالتالي فإن عودتهن إلى عائلاتهن ومجتمعهن تبدو صعبة نظراً إلى التقاليد المحافظة التي يتمسك الشيشانيون بها. وتروي لوزيك حكاية الانتحارية فارينا بسيولتانوفا التي لم تتجاوز التاسعة عشرة من العمر حين قتلت في عملية احتجاز رهائن مسرح موسكو. فقد أتى ذوو بسيولتانوفا قبل شهر من عملية مسرح موسكو للبحث عنها بعدما غادرت العائلة وبدأت حياتها الخاصة بشكل ترفضه بيئتها. وتقول لوزيك إن هناك مجموعة أخرى من الانتحاريات تتراوح فيها أعمار النساء بين الثلاثين والأربعين عاماً وخسرن أزواجاً وأفراداً من العائلة ولا أطفال لديهن. وتمكنت الصحافية الروسية من لقاء الشابة زارجا انكارجيفا التي تبلغ السادسة عشرة من العمر، ونجت من إحدى العمليات الانتحارية. تروي زارجا كيف أن خطيبها دفعها لحمل حقيبة لم تعرف محتواها ووضعها في مركز حكومي في غروزني من دون أن تعرف أنها تنفذ عملية انتحارية. وتقول زارجا في لقائها مع الصحافية الروسية: "لم أكن أعرف أنها عملية انتحارية ومازلت على قيد الحياة. أدرك الآن لماذا طلب خطيبي مني أن يصورني على شريط فيديو وأن أخاطب الله قبل أن أحمل الحقيبة". زارجا نجت من الانفجار لأنها أبعدت الحقيبة عن كتفها قبل أن يقع الانفجار لكنها لم تنج من الإصابة بجروح واعتقلتها الشرطة لمدة أربعة أشهر. واليوم تعمل زارجا نادلة في جمهورية داغستان بعدما طردها ذووها من المنزل إثر العملية التي نفذتها من دون أن تدري في شهر شباط فبراير الماضي. لا شك أن مراجعة سريعة للواقع الشيشاني الذي أثمر ظاهرة الانتحاريات لا تكفي لتفسير ما تقدم عليه النساء الشيشانيات من دون الذكور. فالمجتمع الشيشاني المحافظ تم اختراقه مطلع القرن الماضي بأنماط حياة مختلفة من خلال ضمه إلى الاتحاد السوفياتي. وربما سمح الضم بتسلل أنماط سلوك غريبة عن منظومة الحياة التقليدية الشيشانية. هذا الأمر قد يفسر جانباً من الغموض الذي يكتنف ظاهرة اقبال الشيشانيات على العمليات الانتحارية، إذ يمكن رصد حالات من الانفصال عن الأهل ما كان المجتمع التقليدي ليسمح بها لو لم تتح أنظمة السلوك السوفياتية للفتيات هذا الأمر، كما يمكننا التعرف على أخريات أقدمن على ما أقدمن عليه مدفوعات برغبات انتقامية غالباً ما يقدم الرجال على تظهيرها. وفي المجتمعات المجاورة ربما سمحت العائلات لنسائها بالخروج والعيش المستقل من دون أن يصاحب ذلك نبذ لهن. أما الشيشانيات الخارجات من المنازل والملتحقات بالمقاتلين أو برجال غرباء فيبدو أن أعراف العائلة تقتضي نبذهن، علماً أن فعلة الشيشانيات هذه تتيحها الحياة التي نشأن في ظلها خلال المرحلة السوفياتية. قد لا تكون هذه المعادلة كافية لتفسير ظاهرة الانتحاريات الشيشانيات لكنها تضيئ جانباً منها، خصوصاً تلك المتعلقة بالفروقات بين المجتمعات التي تنتج الانتحاريين. هنا مجتمع ينتج انتحاريين وهناك مجتمع ينتج انتحاريات