اختار بيار برونيل الأستاذ في جامعة السوربون وعضو الأكاديمية الفرنسية في كتابه بعنوان "أصوات أخرى، أصوات مرتفعة" ان يعالج الرواية النسائية في فرنسا القرن العشرين، فعمل على احدى عشرة روائية ضمّ اليهنّ فينوس خوري غاتا الكاتبة اللبنانية الفرانكوفونية في La Maestra الرواية ذات العنوان الملتبس بين "المعلمة والخليلة"، ووقفت الكاتبة اللبنانية شامخة الى جانب كوليت، وناتالي ساروت، ومارغريت دوراس، ومارغريت ساروت، ومارغريت يورسنار، وهن جميعاً من أعظم كاتبات القرن الماضي. ففينوس خوري غاتا لا تستلهم "إيما" بطلتها من عالم الحريم، وعزلتهن عن عالم الفحول الذين يعيشون بمخيلات تتلصص على النساء المتكئات على الوسائد، بل هي تكتب شرقاً ضدياً لامرأة تحمل سرطان دمها، وعُجْمَةَ لُغَتها الفرنسية لتحتل بهما قرية Pueblo البدائية في المكسيك. ف"إيما" التي كانت تفوح من جسدها رائحة الموت، تستّرت بهجنة "الحياة" المستعارة، وقررت ركوب المُحال وهجرة كندا الصقيعية لتستوطن المكسيك لعلها تحتمي من مرضها بدفء الشمس، وتستبدل "عِنّة" زوجها ميغيل كويرفاس، بشبقٍ بدائي، يفجّر حنايا جسدٍ يتعثر بسنواته الخمس عشرة التي لم تحتفل بعبق أنوثتها وشبابها. وكأن "إيما" نسيت أن عبق الأرض الغريبة في المكسيك، لن تضمِّخ برائحة ترابها، جسداً كندياً ليس منها، ولا من جبلتها. القرية البدائية التي شدت "إيما" الرحال اليها، لم تكن سهولها تُنبت إلا الصبير، وسكانها لا يعرفون تربية الأبقار والدجاج، ولا يجيدون الصناعات، وليس عندهم مصنع حديد ولا طاحونة ولا مصنع حبال، وإنما فاخورة واحدة لصنع التماثيل يديرها سانتوس ليخرج منها التماثيل، مما يجعل أبناء القرية يتقززون من تماثيل سانتوس وتجريداته لأن الرموز عندهم فيها الكثير من اللوثة والمراوغة والبُعد عن الحقيقة. فسانتوس إذ يستحضر هؤلاء فنياً فانما يستحضر أرواحاً شريرة تفيض بها روحه وتعكر هناءة القرية وتخيف أطفالها. سانتوس الفنان الوحيد في القرية هو انسان ملعون في تلك المرتفعات الكلسية التي لا تُصدّر شيئاً، ولا تستورد شيئاً ولا تقايض بشيء. هناك يدين السكان بالكاثوليكية المستوردة مع الحملة الاسبانية التي تجاورت كنيستها الواحدة بمعابد الشمس والقمر والأفعى ذات الريش حيث تمّت ولادة العالم ونشأته قبل الاسبان وقبل الكاثوليكية بزمن دهري بعيد. فالمكسيك عند المكسيكيين هي "أرض الميعاد" و"أمة الشمس" التي لها من علومها الفلكية بعض قرابة مع الصينيين والكلدانيين والمصريين. وإذ اختارت "إيما" ان تنقل الى بدائيي المكسيك ما خبرته من فنون التعليم الكندي، والتحديث الصناعي الذي أخطأه المستعمرون الاسبان انحاز اليها سانتوس الشرير الروح، وهبّت "الفيجا" العجوز كإعصار في وجه "إيما" ومرضها وعلمها وتحديثها، ليمسي الصراع بين الثوابت والمتحولات صراعاً بين "الفيجا" التي تحفظ للقرية ذاكرتها وتاريخها وطقوسها وبين "إيما" التي تحلم ان تدمّر بعلومها "الاكزوتيكية" إرث القرية وذاكرة أبنائها، وعلومهم الفطرية التي لقنتهم إياها الطبيعة الأم، التي حَنت على أمراضهم وجوعهم فحنوا عليها حبّاً بغير دمار، وكفايةً بغير استثمار. فالتعليم الذي تذرّعت به "إيما" لِتَعْذُرَ بطقوس قرية شاخت في المرتفعات تتعالى بها فوق أودية الموت ومقابره، هو تعليم بدأ بتصريف فعل واحد أوحد: "أنا أموت، وأنت تموت وهم يموتون"، وهو فعل كان الأطفال الصغار غريبين عنه، وعن صروفه، لأن "الفيجا" كانت تعتبر هذا الفعل من الممنوعات من الصرف التي لا يقربها الأطفال، لا بالضم ولا بالفتح، ولا يمرون بمحاذاتها، لأن الموت ليس له وجود، ولأن الموتى إذ تتحلل أجسادهم يرحلون عن القرية مع أمطار الشتاء وثلوجه. ف"إيما" التي شاءت كتابة عكسية للاستشراق والمستشرقين إذ قررت ان تهجر زوجها، وتتزندق، وتفلسف الجبر والاختيار والفضيلة والرذيلة والعفة والفجور، وتصير صنواً لغريب ألبير كامو الذي ارتكب جريمته واعتذر بضوء الشمس عابثاً ومتمرداً، هي امرأة ستجبهها "الفيجا" التي أدركت سرّها وسرّ جسدها المحمول الذي جاءت لتأثم به في نقصه، وفي سرطانه، وفي حريته، لا في كماله وعافيته. ف"الفيجا" لن تسمح ل"إيما" ان تتطهر من مرضها فوق أرض المكسيك، ولو ان "الفيجا" كانت لها مفاتيح الشفاء وأعشابه وأسراره. فتلك المفاتيح هي لشفاء المكسيكيين لا الكنديين، وهي لأبناء الطبيعة المفطورين عليها، لا لأبناء المختبرات وصناعات الكيمياء الذين أقاموا في المدن وتحصنوا بعتوها، ثم عادوا الى ما تبقى من قليل الطبيعة لغزوها وتخريبها واقتلاع نباتاتها، لعلهم يقلقون سعادة البدائيين وبساطة أدويتهم، ويضطرونهم للنزوح عن منابع الصفاء وبهجتها الى أتون المدائن وسمومها. ف"إيما" إذ هجرت مخدع زوجها لتبدع عالم ذاتها بذاتها، ربطت بين إبداع جسدها وبدعته، وبين البدعة والحرية لتكون لها أولية القوانين قبل القبل وبعد البعد. وهي مذ عَمَر السرطان جسدها العقيم الذي لم يستولده زوجها بل جعل منه "مشهداً وفرجة" يتفحص فيه انطفاء الحياة وسيرورتها الى ضفة الموت، تركت كرسيها الصامت في حديقة الأسوار، وهجرته الى الحياة المعربدة، لأنها الجانب المتهم من الوجود، وقررت بيقينها ان الأخلاق هي اللامعقول الأكبر الذي وضعه الأنذال والغشاشون الذين يشبهون زوجها وقد كان له من عمرها ضعفان. أما ميغيل كويرفاس الأرمل الثري الذي تزوج ب"إيما" فكان زوجاً يغتبط بعافيته، ويلفه الحبور كلما حمل الأدوية التي تطيل عذاب "إيما" ولا تشفيها، فهو له من طول العذاب انشغال بالأدوية، وكفاية من وقت يذهب فيه لاستعراض التوابيت وأسعارها، لأن موت "إيما" لن يكون مفاجئاً ولا صاعقاً ولا مزلزلاً. ف"إيما" مذ حاصرتها غربة الحياة، وغربة الشبق، وغربة الحب، دخلت في صمت حجري واعتصمت به من حرمة الكلمات، وكأنها من بعض وجه قاسمت أبا حيان التوحيدي قوله: "إن الغريب الحق ليس الذي بَعُدَ عن أُلافٍ له، وانما هو ذلك الذي طالت غربته، حتى صار في غربته غريباً". ف"إيما" إذ تزوجت واستحال عليها "الاستيطان" في ضلوع زوج يضجّ بعافيته، أسلمت جسدها القليل الباقي الى هذيان غرائزه، شبيهة ببطلة ستندال في"الأحمر والأسود" تبحث عن سعادة في محال حب مكسيكي، لعلّ المحال يساعدها في مقاومة غربتها، وفي أنسنة موتها، وفي احتضان جسدها الذي ابتليت به سجناً، ووحدة، وعقماً، وسرطاناً. ف"إيما" معلمة مفضوحة في عيني "الفيجا" حوّلت جسدها نصاً تحنو به على أطفال البدائية العارية لتسلخهم من هناءة الجهل وتدفع بهم في وحشية العقل، حتى جاءها صوت هكسلي محذراً: "إن علماء الأجنة سيُخرِجون للعالم أعراقاً بلا تاريخ ولا ماضٍ ولا تقاليد ولا طقوس، لذا فإن نهاية هذا التمدن أفضل من اصلاحه، لأن البدائي مريض "فرادته" وعالمه الناقص الذي لا يطمح الى كمال عليل هو كمال الحضارة والصناعة المبتذلة". وإذ فشلت "إيما" في نقل معارفها المجرّدة الى البدائيين بمعارفهم المحسوسة، بقي لجسدها أن يعاقر الموت وينتشي بآلامه حتى وصل "شوي" الى القرية ليدفن أباه آنذاك. وحدها "إيما" تجرأت على الموت، وأمسكت ب"شوي" لتعبر به بوابات البيت القديم، وتعقد بين أصابع "شوي" وأصابع أبيه المسجّى حتى إذا غاب الأب راحلاً الى مقابر الوادي، عاد "شوي" الى "إيما" أسداً خارجاً من عرينه، يعتصر رغباتها المكتومة لعله يخلصها من مرض يجهل اسمه. ف"إيما" التي عَبَر بها "شوي" من القحل والتآكل الى الحبور، صارت شبيهة الملكة "باسيفاي" فأنّى لها ان تحب زوجها ميغيل كويرفاس الذي يفرح بكثرة حياته كما يفرح بقلة حياة "إيما" القصيرة و"الهشة". فميغيل ينعش "إيما" بالأدوية التي تنهك منها الروح والجسد، لئلا ينعشها بحب يفيض به عليها فتستعيض بالحب عن الوحشة، وتنشغل بجسدها لا بمرضها. وإذ تذكرت "إيما" أوفيد في فن الهوى صارت تردد: "ان الحب عدوّ التراخي، وإن ألوية الحب لا يذود عنها الجبناء". ولم يكن "شوي" جباناً، إذ حررها من إعاقاتها، وردّها الى الحياة بعدما كانت قررت منذ زمن بعيد انه لم يعد لها جسد، بل جثة تنتظر ان يغمرها التراب. ولما سمعت "الفيجا" ان "شوي" استولى على "إيما" اقتحمت منزلها وقررت ألا تغادره. وإذ جاء المساء تحولت "الفيجا" الى "شوي" تقرّعه، وتخيفه من عدوى "إيما" العاهرة ومرضها المميت. فالجسد للمرأة وديعة لا ملكية، وهو برأي "الفيجا" غير قابل للاستهلاك لأنه منذور للانتظار. فإما ان يحظى جسد المرأة بمستهلك شرعي واحد، ولو كان "عنيناً" أو "مجنوناً" أو "قاتلاً" أو "سارقاً" وإما أن يبقى في "أكفانه" يجرجرها، وتجرجره من الولادة الى الموت. فالجسد من المرأة هو "المحمول" لا "المملوك" وعليها "الحرص" على أعباء هذا الحمل بعيداً من السقوط في غوايات التحرر أو التعري أو الشبق، أو الشوق أو السفور. ألم يقل الجوهري: المرأة عورة، وسترها واجب، وفيه عند الخلوة خلاف، ففي الخلوة تصير المرأة مستباحة للتعاور في السر لا في العلن. وشهدت "الفيجا" ومعها أهل القرية على تداخل الشعر الهندي الأسود وامتزاجه بالشعر الأشقر. ف"شوي" جاء من الشاشات البعيدة ليدفن أباه، ويصالح "إيما" مع جسدها، الذي به استعاد جسده من الوهم والمتخيل. وإذ أيقن سكان القرية ان ليس للشهوة عرقٌ أو دين أو لون عرفوا ان الشهوة هي من عالم البدائية غريزة، ومن عالم المدنية حنين وتوق الى البدائية في عريها وصفائها واوليتها وجنّات رغائبها