"أرادوا أن يجعلوا مني امرأة باردة، لأنني لا أهتم كثيراً بتصريحات الحب التي يطلقها الرجال، ولأنني أحب أن أتمشى وحيدة تحت المطر وأتأمل البحر مطولاً، خصوصاً حين تتحطم أمواجه على الصخور. لكنهم مخطئون أولئك الذين يتحدثون عن غريتا غاربو بوصفها امرأة لا مبالية. فالأمر على عكس هذا، لأن ما هو إيجابي وما هو رومانسي عندي يتداخلان ويتصادمان، ولهذا أجدني دائماً على حذر شديد ازاء ذاتي وغير قادرة على تلقي كل أصناف التكريم الا مترددة. والحال أنني أفكر حقاً بأنه ما ان ينتهي زمني على الشاشة، حتى أعود الى بيتي لأتزوج. عند ذاك سأحاول أن أعيش سعيدة، أن أنجب أطفالاً، وأن أجعلهم ينسونني تماماً كل أولئك الذين كانوا يصفقون لي في الماضي". بهذه العبارات ختمت غريتا غاربو في العام 1930، واحداً من النصوص القليلة التي كتبتها في حياتها، وكان عبارة عن نص أملته على أحد الصحافيين الأميركيين. والحال ان غريتا، حققت الجزء الأساسي والأول مما وعدت به، ولكن بعد ذلك بثمانية عشر عاماً: انسحبت تماماً من العمل السينمائي مختفية الى الأبد. هل تراها عاشت بعد ذلك امرأة سعيدة؟ لا أحد يعرف. لكن الكل يعرف انها لم تتزوج ولم تنجب أطفالاً. ولكن هل كان يمكن حقاً لأسطورة أن تتزوج؟ غريتا غاربو كانت، في تاريخ هوليوود وعالم هوليوود، الأسطورة بامتياز، كان فيها ولديها كل ما يعبر عن الأسطورة وكل ما يعطيها حياتها. وإذا كان أندريه مالرو قال مرة أن "النجمة الأسطورة هي ذلك الشخص الذي يعبر وجهه عن الغريزة الجماعية، يرمز اليها ويجسدها"، فإن أقل ما يمكن أن يقال عن غريتا غاربو، هو أنها عبّرت، ليس عن الغريزة الجماعية، بل عن سحر المرأة وغموضها، التباس النجمة وعمق الأسطورة بكل ما في هذه الكلمات من معنى. ولئن كانت عبرت عن هذا بحياتها الغامضة، وملامح وجهها الكامل ونظراتها الغائصة دائماً الى أبعد ما يكون، فإنها عبرت عنه، أيضاً وخصوصاً، بصمتها الذي أعطاها لقبها الأشهر "أبو الهول الهوليوودي". وبلغت أسطورية هذا الصمت حد جعل الدعاية التي وضعت لأول فيلم ناطق مثلته بعد سلسلة أفلام صامته في السويد وفي هوليوود تقول: "غاربو تتكلم". والطريف انها في فيلمها قبل الأخير "نينوتشكا" 1939 ضحكت كثيراً فيه، ولكن خصوصاً حين وجدت دعاية الفيلم تقول: "غاربو تضحك". بين أواسط العشرينات من القرن العشرين، والعام 1941 كانت غاربو، إذاً، أسطورة الأساطير في هوليوود. لكنها بعد اعتزالها النهائي ومن دون رجعة بعد فيلمها الأخير "المرأة ذات الوجهين"، صارت أكثر من أسطورة بكثير. وحين ماتت في العام 1990، عجوزة غامضة وحيدة، استعرض كثر من خلالها، تاريخ الأساطير الهوليوودية كلها. ومع هذا حين وصلت هوليوود للمرة الأولى، برفقة "مكتشفها" المخرج السويدي موريس شتيلر ورآها المنتج لويس ماير للمرة الأولى تردد كثيراً دون القبول بإسناد دور لها قائلاً لمن حوله: "قولوا لهذه الفتاة ان الجمهور الأميركي لا يحب النساء السمينات". فالمطلوب يومها، بالنسبة الى ماير، كان التعاقد مع شتيلر بعد النجاح الكبير الذي حققه فيلمه السويدي "غوستا برلنغ"، لكن شتيلر أصر يومها على ان تعمل معه غاربو. لقد فرضها على المنتجين الأميركيين فرضاً. لكن الفاتنة لم تمثل أبداً تحت إدارة "بيغماليونها" في هوليوود: كل ما في الأمر أنها نجحت هي، فيما أخفق هو. وذات مرة حين كانت قادرة على فرضه لإخراج فيلم لها، لم يستمر في العمل سوى ستة أيام طرد بعدها ليحل مكانه فرد نيبلو، وكان ذلك في فيلم "المغوية" 1926. وأوقع ذلك غريتا في حزن شديد، أما شتيلر فإنه سرعان ما سيعود الى السويد ليموت وحيداً بائساً. ولا شك أنه في أيامه الأخيرة تذكر الزمن الغابر، حين اكتشف غريتا غاربو صدفة وأطلقها - على رغم كل العراقيل - على درب النجومية موصلاً إياها الى هوليوود. عارضة قبعات كان اسمها لا يزال غريتا لويزا غوستافسون، الفتاة التي ولدت في ستوكهولم في العام 1905 لأسرة مدقعة الفقر. وعندما التقت شتيلر في العام 1923، كانت فتاة غامضة غريبة الأطوار لكنها شديدة الجمال، وشديدة الذكاء أيضاً. وكانت تبدو في ذلك الحين عاجزة عن الاندماج في أوساط الطلبة في معهد الفن الدرامي الذي انتسبت اليه. وغريتا كانت، عند وفاة والدها العام 1919، في الخامسة عشر من عمرها تقريباً. ولما كانت منذ البداية ميالة الى الاستقلال، آلت على نفسها ان تدبر حياتها من دون مساعدة أمها. وهكذا راحت تعمل في دكان حلاق. ومن هناك انتقلت للعمل بائعة في مخازن كبرى تبيع الثياب، وصارت في الوقت نفسه عارضة للقبعات في المخازن. ولفت جمالها أنظار المسؤولين فصاروا ينشرون صورتها في الكتالوغات معتمرة أجمل القبعات. ثم صُورت في فيلم دعائي للمخازن، ثم في فيلم آخر، للمخازن نفسها، وكان يخيل اليها ان الأمر هذه المرة أيضاً سيكون "مجداً عابراً". لكن المجد الحقيقي كان في انتظارها، اذ حدث ان شاهد الفيلمين مخرج مسرحي معروف فعرض عليها ان تمثل دوراً صغيراً في فيلم كان يعده عن مسرحية "بطرس المتشرد". وهي ما ان انتهت من العمل في هذا الفيلم حتى قررت ان تجعل فن المسرح مهنة حياتها، وهكذا انتسبت الى الأكاديمية الملكية حيث التقاها موريس شتيلر. ومن الواضح انه وقع من فوره في هواها، تماماً كما سيحدث لجوزف فون سترندبرغ، الذي سيكتشف في الوقت نفسه مارلين ديتريش ويقع في هواها. واللافت ان غريتا ومارلين تنافستا طويلاً بعد ذلك، في الأفلام الهوليوودية كما على صفحات الصحف وفي أحلام الجمهور العريض، لكن تلك حكاية أخرى، إذ علينا هنا ان نبقى مع غريتا وشتيلر الذي ما ان تعرّف عليها حتى أعطاها دور كونتيسة إيطالية في فيلم "غوستا برلنغ" الذي كان سيبدأ تصويره. صحيح ان هذا الفيلم لم يحقق نجاحاً كبيراً حين عرض في السويد، لكن نجاحه في ألمانيا كان من الضخامة الى درجة ان لويس ماير بدأ يهتم بمخرجه. غير ان هذا كان في ذلك الحين يفاوض شركة ألمانية في برلين على تحقيق فيلم عن الحريم في اسطنبول تقوم غريتا ببطولته. وزار معها اسطنبول بالفعل لهذا الغرض، لكن المشروع لم يتحقق ما اضطر شتيلر الى "إعارة" غريتا لزميله بابست الذي كان يصور فيلمه "شارع لا سرور فيه" فلعبت الحسناء دوراً في الفيلم فيما كان شتيلر يستعد للسفر الى هوليوود. وانتظرها حتى أنجزت تصوير دورها مع بابست ليصطحبها معه الى أميركا. وهكذا بدأت مغامرة غريتا الأميركية، فيما بدأت نهاية أستاذها العاشق المتيم. ففي العام 1926، أي في العام نفسه الذي حطت فيه غريتا رحالها في هوليوود، مثلت دور البطولة في الفيلم الصامت "الاعصار" من اخراج مونتا بيل، في وقت كان يسعى فيه شتيلر الى تحقيق فيلمه الهوليوودي الأول. وهنا، على عكس ما توقع لويس ماير، أحب الجمهور غريتا التي صارت الآن غريتا غاربو، الى درجة ان العام نفسه شهد تحقيق فيلمين آخرين من بطولتها هما "المضوية" و"الجسد والشيطان"، وفي الوقت نفسه كانت تتكون أسطورة غريتا غاربو، الغامضة، الصامتة، المتألمة، تلك الأسطورة التي ستعيش طويلاً. تجوال بين الأمم صيغت هذه الأسطورة على مدى أربعة وعشرين فيلماً حققها 15 مخرجاً وسينمائياً. كذلك صيغت عبر أدوار كان ثمة اتجاه دائم لجعلها غريبة وبعيدة المطال، فهي حيناً غانية باريسية سمراء في "المغوية" وشقراء اسبانية في "الاعصار" ثم فاتنة روسية في "آنا كارينينا" وكونتيسة هنغارية في "الجسد والشيطان" ثم جاسوسة روسية وباريسية مرة أخرى، فامبراطورة وملكة، ثم من جديد روسية متجهمة... وهكذا على مدى أقل من عقد ونصف العقد من السنين تجولت غريتا بين الأدوار والجنسيات. أحبها الجمهور. و"أسطرها"، لكن أحداً لم يتمكن حقاً من التسلل الى داخلها. بل حتى عجز الجميع عن معرفة أي شيء نهائي وحقيقي عن حياتها. وهي نفسها لطالما قالت لمن سألوها أن تروي لهم تفاصيل تلك الحياة: "وماذا عن حكاية حياتي؟ ما الغريب في الأمر، إننا جميعاً نسلك الطريق نفسها: نذهب الى المدرسة، نتعلم ونكبر، بعضنا يولد في بيوت فخمة مريحة، وبعضنا الآخر يولد في بيوت بائسة. فما أهمية هذا كله؟ ما أهمية ان يعرف أحد من هو أبي أو أمي؟ أنا لست أرى لماذا يمكن لمثل هذه الأمور أن تهم الآخرين". صحيح أن هذا الغموض كله كان يشكل جزءاً من شخصية هذه الفاتنة الشمالية "الباردة". ولكنه اذ بلغ حداً يفوق طبيعة الأمور، تساءل كثيرون وما زالوا عما إذا لم يكن هناك في خلفية هذا الصمت وذاك الغموض سياسة مقصودة رسمها الاستوديو. عن هذا الأمر يروي المنتج أدولف زوكور في مذكراته ان هذه "الممثلة السويدية ساهمت منذ البداية في العمل الدعائي الدقيق والناجح الذي أحيطت به. ولاحقاً حين تضخمت شعبيتها في شتى أنحاء العالم، راحت ترفض ان يكون هناك عميل للاستديو حاضراً حين تجرى معها مقابلات صحافية كما جرت العادة. وإذ أصر الاستديو على ذلك بقي كل من الطرفين عند موقفه وكانت النتيجة ان تم بعد ذلك تفادي ادلاء غاربو بأي تصريح. وكان ذلك مُرضياً للجميع: لغاربو، وللاستديو وللجمهور" الذي راح يشكل أسطورة نجمته على هواه. غير أن هناك من قدم تفسيرات أخرى. فمنهم من قال ان غاربو إذ أحست نفسها ضائعة بعد رحيل شتيلر الذي كان معلمها وملهمها ومنظم تحركاتها، استعانت بوكيل النجم جون جيلبرت وهو الممثل الوحيد الذي أغرمت به كما يبدو، لكي ينظم أعمالها، فكان من شأن هذا الوكيل ان اشترط عليها ألا تدلي بأية أحاديث صحفية. فهي، اذ اشتهرت من دون ان تتكلم الانكليزية كما يجب، كانت تخشى دائماً ان تقول أشياء خرقاء وغير تلك التي يمكن ان يتوقعها منها الجمهور. إذاً، مهما يكن من الأمر فإن جانب اللغز والصمت المحير في شخصيتها ظهر منذ بداية مسارها المهني الهوليوودي. وهكذا لقبت ب"أبي الهول". وصار السؤال الأساسي: من هي غريتا غاربو؟ على هذا السؤال كان من الصعب ان يجيب أحد. وحدهم الذين عرفوها عن كثب، وكانوا قلة، كان يجيبون، لكن الغريب ان إجاباتهم كانت غالباً ما تزيد الغموض غموضاً... وتزيد من صعوبة اختراق ملامح "أبو الهول" هذا! "كانت شديدة التردد" قالت صديقتها ماري ديسلر، فيما قال المخرج كلارنس براون، الذي كان له حظ ادارتها في سبعة من أهم أفلامها ومن بينها "أنا كريستي" و"آنا كارينينا"، انها كانت "خجولة وحييّة الى حد المرض" مضيفاً أنها كانت "خرقاء حين تلتقي الغرباء. فإذا حدث لها ان لمحت داخل استوديو التصوير شخصاً لا تعرفه، ترتبك وترتجف وتعجز عن اكمال المشهد". ومع هذا كان جون باريمور يراها فائقة الذكاء. أما دوغلاس فيريانكس فكان يرى ان المرء كان في امكانه "أن يمر مئة مرة أمامها من دون أن يتعرف عليها. لا إذا أرادت هي ذلك. كل ما في الأمر أنها كانت امرأة عادية، لكنها كانت غريبة على نمط الحياة الأميركية". ومن الناحية المهنية كان الجميع يعترف لها بالموهبة الكبيرة، لكنهم أجمعوا على أنها لم تكن ودودة على الاطلاق. وفي مطلق الأحوال، كان يمكن ان يقال ان غموضها كان يشكل جزءاً أساسياً من الشخصية التي بنتها لنفسها. ولعل أكبر دليل على هذا، الطريقة التي بها تركت، في نهاية الأمر، وقبل وفاتها بنصف قرن، عملها السينمائي مبتعدة نهائياً عن الشاشة: فهل بعدما لعبت دور البطولة في فيلم "المرأة ذات الوجهين" من إخراج جورة كيوكر في العام 1941، وهو الدور الوحيد الذي كانت فيه "امرأة أميركية نمطية"، أحست أن الجمهور لم يتقبلها كثيراً في ذلك الدور وهكذا اتفقت، مع الاستديو على ان تبتعد عن الشاشة بعض الوقت لكي يقيض لها، علماً بأنها كانت لا تزال في قمة مجدها وفي الثامنة والثلاثين ان تختار عملها التالي بدقة وتؤدة حتى "تعود الى الشاشة عودة مظفرة". وهكذا ابتعدت موقتاً أول الأمر. لكن الوقت أخذ يمضي، شهور ثم سنوات وهي غائبة: اكتفت بالسفر، وبالقراءة، وبسماع الموسيقى وبمصادقة عدد قليل جداً من الأشخاص. وكان آخر ما تتمناه خلال ذلك الابتعاد هو ان يصورها أحد أو يطرح عليها صحافي سؤالاً. هل تراها بدأت تحس بالتقدم في العمر؟ هل رأت أن جمالها يذوي؟ المهم أنها لم تعد أبداً الى الشاشة. وصمتها الذي كان سحراً وربما "دلالاً" أول الأمر صار نهائياً... فقط بين الحين والآخر خلال السنوات الأخيرة من حياتها كان مصور ما ينجح في التقاط صورة لها خفية، وبالكاد يصدق الناس ان العجوز التي في الصورة هي هي فاتنة الجماهير ونجمتهم الأسطورية. لكنهم في النهاية، ذات يوم من العام 1990 كان لا بد لهم ان يصدقوا أخيراً، نبأ وفاة غريتا غاربو التي أخذت معها أسرارها. فهل يتمكن أحد ذات يوم من كشف هذه الأسرار. أو على الأقل من تأكيد أنه لم تكن هناك أسرار ولا من يحزنون؟