بين الحوار المنطقي الهادئ والكلام القاسي المتوعد، يحتار الاهل في تصرفهم تجاه الطفل العنيف الحاد الطباع والذي غالباً ما يكون صاحب شخصية قوية تمتاز بروح التمرد والتفرد بالرأي وحب الاستقلال. هذا الطفل العنيد المشاكس هو مشكلة للاهل الذين قد تبعدهم محبتهم الكبيرة له، عن التوصل الى حلول منطقية لآفة حدة الطباع هذه. هذا الصغير الرائع، الذكي والذي ينام بوداعة وهناء يتحول الى اعصار مدمّر وبركان ثائر يترك آثار مروره واضحة على الاشياء والناس، فهو يرفس، يضرب ويكسّر ثم يتكلم بهدوء وقوة منطق تُخرسنا ناظراً الينا بتحدٍِ ودهاء. وفي المدرسة لا يخشى التأنيب ولا القصاص، بل يزرع الرعب في الملعب… انه، بكل بساطة يحتل بالقوة مكانة القائد و"الرئيس" في المدرسة كما في البيت. في الصباح، انهى فطوره بهدوء، دخل غرفته ليخرج منها بسرعة حاملاً محفظة كتبه على كتف واحدة، رمى قبلة في الهواء تجاه أمه. لم يكد يصبح خارج البيت حتى علا صراخ اخيه الصغير. رددت الأم: "انها فعلته الاولى هذا الصباح، ولن تكون الأخيرة". وراحت تتذكر طفولة هذا الصغير المشاكس، الذي قبل بلوغه عامه الثاني بدأ يقوم بأعمال تخريبية في المنزل لدرجة ان والده اطلق عليه لقب "أبو الشر" وكسّر صحوناً واقداحاً ومزهريات واشياء اخرى كثيرة. وعندما لم يعد يجد شيئاً يكسره، اخذ يمزّق اوراق النباتات الداخلية لا يؤثر فيه التأنيب ولا الكلام الهادئ، ولم ينفع معه العقاب. ان الأذى في دمه وعنفه يزداد مع الزمن. واضح ان هذا الطفل يتمتع بقوة الشخصية منذ الطفولة. وهو يتميز بقدر كبير من الحيوية والنشاط وتظهر هذه الشخصية الموروثة في مرحلة الوعي التي تبدأ بين عمر السنة ونصف السنة والثلاث سنوات، حيث تبدأ شخصية الطفل بالتبلور وتظهر عنده "الأنا" اي الشعور الواعي والمدرك للذات وبنظرة الى نفسه وكأنه صاحب شخصية متكاملة لها رغباتها ومتطلباتها ووجودها في محيطه. وفي هذه المرحلة، تعتبر حدة الطباع امراً طبيعياً يمر به الاطفال كافة بدرجات متفاوتة. وتأتي المشاكسة هنا لتعبر عن الشخصية بل لفرضها على الاهل وعلى محيطهم ايضاً. عادة تزول حده الطبع شيئاً فشيئاً ومن دون ان تترك لديه آثاراً سلبية او ترسبات نفسية، خصوصاً اذا استطاع الاهل معالجتها بالحوار الهادئ. اما اذا حدث التصادم بين شخصية الطفل المليئة بالتمرد وحب الاستقلال وبين شخصية احد الوالدين القوية والتي تفرض ارادتها، فان الطفل يبدأ بتحدي سلطة الاهل ويرفض كل سيطرة عليه، وهذا يظهر بالطبع من خلال العنف والمشاكسة وأذى من هم اضعف منه وهناك حالات عدة تظهر لنا هذا العنف المجاني والذكي في الوقت نفسه. العنف في قوة المنطق العنف لا يعرف جنساً ومثله الشراسة، وقد يكون غضب الفتاة اكثر عنفاً في بعض الاحيان خصوصاً اذا كانت تحمل الرقم اثنين في العائلة المؤلفة من ثلاثة اولاد. ها هي ابنة الست سنوات تمر بهدوء في غرفة الجلوس، ظاهرياً لم تزعج اي شخص من افراد العائلة بمرورها. لكنها لم تكد تصل الى الباب حتى علا في الوقت نفسه، بكاء اخيها الصغير وصراخ اختها الكبرى من الألم. بكل بساطة لقد مزّقت ورقة الرسم لاخيها الصغير مع مرورها السريع، وداست على يد اختها التي تكبرها بسنتين. لماذا؟ اجابت: "هذا الصغير الذي هو اخي رسمه خطأ بخطأ وهو يرفض سماع نصائحي كي يتعلم الرسم الجيد، اما تلك الاخت فهي تنام على الارض، وكلنا نعلم ان الارض هي للمشي وليست سريراً، ومن حقي ان امشي على الارض كيفما اشاء". اما الحقيقة، فهي طبعاً مخالفة لهذا المنطق، ان الاخ الصغير يحب ان يرسم على هواه وهي تريد ان ترسم له على هواها، اما الاخت الكبرى فقد رفضت اللعب معها فداست على يدها بعد ان مزقت ورقة الرسم لاخيها. وامام قوة منطق ابنة السنوات الست لم تعد الام تدرك كيف تتصرف فقالت لابنتها وهي تهدئ الصغير: "العقاب سيأتي لاحقاً". لكن الصغيرة اجابت بدورها: "هذا ما ترددينه دوماً وستنسين معاقبتي في ما بعد، تماماً كما نسيت وعدك لي بشراء شيء نسيت انا ما هو وانت بالطبع". عندها لم تتردد الام في توجيه صفعات على مؤخرة الصغيرة. ان للطريقة التي يعامل فيها الاهل طفلهم تأثيراً كبيراً على تخفيف حدة العنف لديه أو ازديادها. وإذا كان الأهل ممن يفضلون طريقة العقاب القاسي لأقل هفوة يقوم بها، فإن طفلهم سيتحول إلى مشاكس عنيد، يواجه العنف بالعنف كما تكثر مشاكله النفسية. لكن التسامح الدائم لكل أخطاء الطفل وتلبية رغباته مهما كانت رخيصة أو غالية الثمن، مادياً أو معنوياً، إضافة إلى الخوف عليه من كل أمر وكل شيء، كل ذلك يقوّي لدى الطفل روح الانانية والغضب السريع ومعه العنف. فهذا النوع من الأطفال لا يعرفون حدودهم حتى خارج نطاق العائلة، هم دائماً على حق وطلباتهم تتحول إلى الأمر، لأنهم لا يستطيعون التمييز بين الممكن والمعقول وغير المعقول، لأن الأهل يلبون كل رغباتهم من دون استثناء. وعندما يتجاوز الطفل حدود المعقول يصبح من الصعب ايقافه عند حده، فهو لا يعرف حدوداً، عندها يثور ويغضب ويلجأ إلى العنف لتحقيق مطالبه وفي بعض الحالات يكون العنف ناتجاً عن أسباب صحية بحتة، اما إذا ازدادت حدة العنف لدى الطفل السليم جسدياً فيجب اعتماد علاج من نوع آخر يبدأ باستشارة طبيب الأطفال. هناك أيضاً الطفل الذي يحتاج إلى انتباه الأهل لوجوده أكثر من غيره من الأطفال. ويريد من وراء سلوكه المتمرد جذب الأنظار إليه، فيسبب الأذى لسواه ويحقق ما يرغبه من الانتباه إليه ولو لوقت قصير وقد يكون لمعاقبته أو تأنيبه. وأفضل ما توصل إليه علماء النفس والتربية لحل هذه المشكلة المتعلقة بالطفل العنيف والمشاكس هو طريقة مقابلة ثورة الطفل بصبر وهدوء، وعدم الاهتمام بتصرفاته العنيفة، بل نتركه في غرفته "يفش خلقه" يركل ويرفس ويبكي ويصرخ ويخرّب كل ما في غرفته بحدود أي من دون تكسير أو تحطيم محتويات الغرفة، لأنه بعد ذلك سيهدأ، والمهم ألا يؤذي أحداً كاخوته واخواته، وعندما يتأكد أن والديه لا يهتمان بصراخه، سيحاول من دون شك تغيير اسلوبه في العنف، وقد يتوقف مثلاً عن الطعام، لكن سيأكل عندما يجوع فعلاً، وإذا تمادى في اضرابه هذا، يجب ارغامه على تناول الطعام مع الجميع. الحقيقة يحتار الأهل في ردة فعلهم أمام الطفل المشاكس العنيف، وغالباً ما تتغلب العاطفة على العقل والمنطق في معالجة ثورة الطفل. ويؤكد علماء النفس أن على الأهل التخلي عن عقدة الذنب تجاههم وتجاه طفلهم، ثم يأتي دور الحوار مع الطفل وسؤاله بهدوء وحنان عن أسباب غضبه، هل هي نابعة من البيت أم من المدرسة، هل هي نتيجة قلة اهتمام من قبلهم أم غيرة من قبل الطفل. وعندما يدرك الصغير أنه محط اهتمام فعلي، سيتكلم وسيبوح بما يؤرقه، وعندما ندرك سبب العنف نستطيع مقاومته، من دون أن ننسى وضع الطفل أمام مسؤولية عنفه وما سببه لغيره من أذى. أما العنف بحد ذاته، فهو يولد مع الإنسان، وهو غريزة طبيعية لا يجب أن نمحيها من حياة الطفل، بل على الطفل أن يعبر عن عنفه ولكن بطرق لا تؤذي سواه، لذلك على الأهل معرفة مقياس العنف لدى طفلهم وتحويله إلى قوة كممارسة الرياضة مثلاً. والطفل الذي يدرك قوة عنفه ويجيد فرصاً جيدة للتعبير عنه، لا يوجهه الى سواه بل يستخدمه للفوز الرياضي مثلاً أو العلمي لأنه يثق بنفسه ويندر قوة عنفه. بين علم النفس وخبرة الحياة، قد يكون من الأفضل لأطفالنا ولنا، أن ندرس طريقة تصرفاتنا معهم، فبعضها قد يكون السبب في ردة فعل الأطفال، كالمبالغة في تدليلهم والتسامح معهم وتلبية رغباتهم، أو على العكس، المبالغة في الضغط عليهم وارغامهم على اتباع نظام معين مدروس في كل شيء وعمل يقومون به خارج المنزل وداخله، مما يؤدي الى توتر نفسي شديد لدى الطفل وشعور بالقلق والكبت، الذي ينتج العنف وحدة الطباع. أمر أخير يؤكده علماء تربية ونفس الأطفال، ذلك أن أهم وأفضل طريقة يواجه بها الأهل عنف طفلهم وثورته، قد يكون الحوار معه وكأنه شخص ناضج، ومواجهة بكائه وغضبه بضمه الى الصدر والهمس في أذنه اننا جميعاً نحبه الطفل المدلل ديكتاتور صغير في كل زمان ومكان في بيوت الأغنياء والفقراء على حد سواء نجد طفلاً مدللاً، يدير عالمه الصغير كما يشاء ويمارس سلطته على الناس والأشياء. هذا الطفل الملك يقدم على الأب والأم والجد والجدة ايضاً، كل ما يرغب لدرجة انه يضيّع معنى ورونق وقيمة ما يحصل عليه معنوياً ومادياً. هذا الطفل يمارس منذ صغره لعبة الابتزاز المعنوية، فيدفع له الأهل ثمن قبلة وضمة وبسمة. هل هو سعيد هذا الطفل؟ وهل أهله سعداء في حياتهم الدائرة أبداً حول تلبية طلبات طاغية المنزل الحبيب. عندما ينصاع الأهل لرغبات الطفل مهما كانت، يقول علماء النفس والتربية، لا يدركون الخطأ الكبير الذي يقومون به تجاه طفلهم من الناحية النفسية اولا والاجتماعية فهم يخلقون، من دون قصد، طفلاً يعتقد انه دائماً على حق اذ يحصل على كل ما يطلبه، هكذا يتحول الأهل بنظره الى أداة لتنفيذ رغباته. ومن الصعب مطالبة الأهل بردع طفلهم وإفهامه ان الأب والأم هما أساس المنزل وهو الشخص الثالث وعليه اطاعة الأهل. طبعاً يخافون من ردة فعله، يخشون ان يتوقف عن حبهم هذا الطاغية الحبيب. اما الحقيقة، فهي ان الصغير لا يتوقف عن محبة أهله، ففي اعماقه يكن كل الحب والحنان لكنه لا يحتاج ولا يعرف أسلوب اظهاره فحب الأهل مقدم على طبق ومن دون مقابل. ويحذر علماء التربية والنفس، الأهل من آفة الطفل المدلل. ومن المستحيل تهذيب طفل من دون وضع قانون داخل المنزل لتحديد مسؤولية ومكانة كل فرد يعيش فيه. وإذا لم يضع الأهل هذه الحدود باكراً، أي مع بلوغ الطفل عامه الثاني وحتى الرابع، فإن الصغير يتحول الى انسان غير قادر على تحمل أي رفض، بل يواجهه بالتمرد والعنف الذي يكبر معه. وعندما يكبر الصغير المدلل، تكبر رغباته وطلباته معه من دون ان يهتم فعلاً بشعور أو امكانات أهله ومحيطه. وغالباً ما يصبح شخصاً كسولاً رافضاً لأي جهد، وقياساً لشخصيته ونسبة ذكائه، يكون عرضة أكثر من سواه لانحرافات المراهقة وما تشملها من اخطار المخدرات والكحول والحياة الهامشية. في حال الطفل المدلل، من الأفضل للأهل اعلان ثورتهم عليه، باكراً، وقلب الأدوار وإفهام الديكتاتور الصغير وبلغة الأطفال بالذات: "نحن كأهل، اكبر منك سناً، وبالتالي أقوى جسدياً، ثم نحن من يعمل وانت تعيش معنا وعليك ان تعمل، أي ان تسمع وتنفذ ما نطلبه منك ولا تحاول الصراخ وفرض رغبتك علينا، فلن تنجح". أخيراً، يجب الانتباه الى أمرين، والقول دائماً لعلماء النفس، الا يتراجع الأهل عن موقفهم تجاه بكاء الصغير ورفضه للطعام أو النوم أو غيرها. ثم عليهم ألا يتحولوا الى طغاة بدورهم، فللأطفال رغبات طبيعية ومعقولة علينا تنفيذها من دون مقابل كبير، وبعض الحوار له فوائد جمة.