افضل الحديث عن العراق اليوم هو ما يُعنى بنفطه، فأرض هذا البلد تحتوي على ثاني أكبر احتياطي للنفط في العالم يقدره الخبراء بحوالي 118 بليون برميل وهو قادرعلى ضخ ما بين 8 الى 9 ملايين برميل يومياً في افضل الاحوال . ومع احتلاله من قبل الولاياتالمتحدة وحلفائها، واسقاط نظام الرئيس صدام حسين، يصبح هاجس القضايا الاساسية التي تمس المواطن العراقي: الديموقراطية، المدارس، العمل، الحرية، الاستقرار، الامن وغيرها، مرهوناً بدرجة او باخرى بتحرير هذه الصناعة الغنية التي عرفت انهياراً تكنولوجياً وتوزيعاً وامكانات، اثر ثلاث حروب وحصار دولي طوال العقدين الماضيين. لا مندوحة من القول اذاً ان كل ما رهن العراق واهله خضع ل "حرية" النفط المغيبة، فقرار تأميمه عام 1972 لم يفلح في رفع الحيف عن الخزنة الطبيعية التي كان عليها ان تمد الدولة الحديثة بوفرة ثراء وقوة اقتصاد وثقل سياسي. فالذي جرى مذاك هو اخضاع النفط الى قرارات سياسية كشفت لاحقاً عن وجهها التوتاليتاري، والتي حولت الريع النفطي الى داعم رئيسي لمغامرات هوجاء لم تجلب سوى الويل على البلاد والعباد. اليوم يكشف محتلو العراق ان خططهم تتركز على "فرض" عقوبة متأخرة انتظرت سنوات طويلة، كي تزيح ذلك التأميم، وتعيد الذهب الاسود الى ملاكه السابقين: الشركات الغربية. وكان السبيل الى اضفاء الشرعية على ذلك هو اعلان "التحالف" تخصيص صناعة النفط العراقي وتوزيع اتاوات استخراجه وتكريره وبيعه، واستخدامه ذريعة لأنهاء هيمنة التحكم باسعاره دولياً. وهذا الامر تطلب، في المقابل، تكريس منطق تحرير الاقتصاد العراقي لغرض ارضاء الرأي العام العراقي، بان مايجري هو هدف "مخلص" لربط ذلك الاقتصاد بنظيره العالمي، وتوسيع خطوات تأهيله لمواكبة القفزات الاقتصادية التي فاتت العراق طوال عهود الحروب والحصار، وتعميم الرخاء الذي افتقده العراقيون منذ الطلقة الاولى للحرب مع ايران. اذن اين "الشأن السيادي" في مستقبل نفط العراق؟ وهل سيفسح الاميركيون المجال امام حق العراق في التصرف بثروته المقبلة، على افتراض تحريرها بالكامل من التعويضات التي تبدو بلا نهاية، والديون التي راكمها النظام المخلوع على مدى سنوات حكمه؟ والسؤال الاهم: لماذا يكثرالكلام من اجل تبرير "الوصاية" الاميركية المغلَفة على النفط، وليس الكلام عن العراقي الذي عانى الامرين ومستقبله؟ هذه الاسئلة، واخرى كثيرة، كانت الغائب الاكبر في خطابات المشاركين في مؤتمر عقد في روما تحت عنوان "من نفط الديكتاتورية الى نفط الحرية" بدعم من مؤسسة "ايه دي ان كورنوس انترناسيونال"AKI العملاقة انظر الحوار مع رئيسها جوسيبي مارّا، والتي اعلنت عن انطلاقة وكالة انبائها الجديدة والتي تبث بالعربية، من ضمن لغات اخرى، عبراختيارهذا التجمع النفطي/ السياسي المتنوع، والذي قدم تصورات عدة ومتناقضة في توجهاتها حول مسألة النفط في منطقة الشرق الاوسط، مع التركيز على العراق ومحنته الطويلة وآفاقه الغامضة. والمخاتلة هي اول مايرد الى ذهن قارئ ذلك العنوان. فهل هناك انواع من النفوط خاصة بديكتاتوريي العالم وآخرى باحراره؟ فان كان الامر كذلك، فأين ينطبق هذا التوصيف على النفط العراقي؟، فهل تعني نهاية "ديكتاتور" بغداد، كما يحلو للغرب اطلاقه على الرئيس المخلوع، ان نفط العراق تحرر قبل تحرر ابنائه، ومتى يتساير التحريران معا، كي يصبحا عنواناً واحداً؟. المسلّم به هنا ان التفكير الغربي اليوم، وتحديداً منذ هجمات 11 سبتمبر وتوابعها، يستسيغ تبرير الاحتلالات او ما يمكن تسميته ب"عقوبات التحرير"، فوصفة الديكتاتورية قائمة ضد غالبية أنظمة العالم بشكل او بآخر، لكن ماهو غريب ان الوصفة المقابلة ل "المحررين" تظل هلامية، فضفاضة، لن تتركز ملامحها الا عبر العناوين الاعلامية الرنانة، وهذه العناوين تأتي متأخرة، وتابعة للقرار السياسي- العسكري الكبير الذي سيفصل، بالقوة، الامة الديكتاتورية عن الامة المحررة! ولعل ابلغ من عبر عن هذه النقطة، آلفريدو مانتيكا نائب وزير الخارجية الايطالي المكلف شؤون الشرق الاوسط الذي غلب التشاؤم على مداخلته عبر وصفه ما يجري في العراق بانه "حرب صغيرة تقلق الجميع"، حققت "نصراً من دون نصر حقيقي" في اشارة الى فشل التحالف في اصطياد صدام حسين ، ليعلن ان هدفها هو "استعادة الشعب المحرر"! ليرمي لاحقاً اللوم على ذلك الشعب عبر تساؤله عن المبادرة الشعبية في العراق وغيابها! ويخلص الى ان "تحرير العراق عليه ان يسير مع ارادة العراقيين". اين النفط في هذا كله؟ يجيب مانتيكا بفلسفة: "ان النفط فرض علينا شروطاً سياسية/اجتماعية، كما كان الماء الذي فرض اسلوب حياة معين على البشر" وان "النفط يلعب دوراً مهماً في زمن العولمة"، فيما اعتبر ادولفو اورسو وكيل وزير الانشطة الانتاجية الايطالية نظام "النفط مقابل الغذاء"، الذي يبدو ان استمرار العمل به قطعياً، "هو مساحة حرية داخل نفط الديكتاتورية"! معتبراً اياه "عنصربالغ الاهمية في تطورنا ورفاهيتنا"، ومشدداً على ان "هدف اوروبا هو إشاعة الديموقراطية في المنطقة، والتي يجب ان تتم عبر فرض العلمانية". هذا الكلام المجتزأ طابقه الناطق باسم السفارة الاسرائيلية بعد كلام طويل عن الارهاب والرئيس ياسر عرفات والفلسطينيين، وان مكافحة الارهاب لا تشمل مسألة اسلحة الدمار الشامل، بل جميع المنظمات المعادية! بقوله ان "سقوط صدام اهم من القبض عليه". غيران هذا الموظف استغل مخاتلة عنوان الندوة ليعلن ان "اسرائيل تملك التكنولوجيا والخبراء، ويمكننا وضع قدراتنا هذه في خدمة السلام في الشرق الاوسط". هذا الكلام تكرر صداه في مداخلة الخبيرة الاميركية في العلاقات الدولية جوديث كيبر مديرة منتدى الشرق الاوسط، فكان اصرارها واضحاً في ضرورة القبض على "الاشرار" Bad Guys، و"تعميم القانون على كل العراقيين بغض النظر عن اثنياتهم او دياناتهم، وضرورة مساعدتهم للامساك بزمام امورهم، اذ ان العراقيين سيقبلون الاحتلال ان تيقنوا ان حريتهم ستتحقق، وانهم سيحصلون على حكومتهم"، ومثلما حضرت "خارطة الطريق" بكثرة في مداخلتها، غاب النفط. فهذه الخبيرة التي كانت تلقي كلامها وكأنه "حكم قطعية"، غير قابلة للتغيير، ازاحت بعنوان المؤتمر و"نفطه" جانباً وتنكبت الدفاع عن سياسة الرئيس جورج بوش في المنطقة، داعية الى استغلال عزمه "الايماني" لحل الصراع العربي الاسرائيلي، من دون ان تفوت الفرصة في شتم الاعلام العربي. وحده الخبير العراقي فاضل الجلبي المدير التنفيذي ل "مركز الطاقة الدولية"، ومقره في لندن، بقي أميناً لغرض المؤتمر، ورأى ان عودة العراق الى سوق النفط بقوته السابقة، ستضع قرارات منظمة "اوبك" على المحك، ان لم تخلق لها اوضاعاً صعبة، خصوصاً في حرب الاسعار والمحافظة على مستوياتها او على الاقل مناوراتها. يقيناً، ان الكثير من المنتديات والمؤتمرات والاجتماعات واوراق البحوث والدراسات، ستساهم في فرض النظريات والاستراتيجيات المستقبلية لصناعة النفط الحيوية في العراق، الا انها بشكل او باخر ستغفل المورد الاكثر اهمية لهذا البلد: اجياله المقبلة، التي يبدو واضحاً انها ستعاني من مصاعب الحياة ومستلزماتها لفترة ليست بالقصيرة، حتى تستتب امورها وتضمن مستقبلها، ضمن حكم وطني يفترض ان يحل مكان "ديكتاتورية" مخلوعة على يد قوات احتلال اجنبي. وهي قضية غيبتها بقصد او من دونه مداخلات المشاركين في مؤتمرروما