أصدرت جامعة البحرين مجلة "ثقافات" توسّع بها مساحة القول ليعبر الى سرّ تتعانق فيه الحلاوة والملوحة، غير ان مساحة الوعد سرعان ما انغلقت على ضيقٍ بعنوان "هيئة المستشارين". وجاء في التقليد، ان مجلة تصدر عن صرح أكاديمي لها من نفسها كفاية الصرح وأهله يستقطبون من ضجّ بسلطاته البطريركية، وضجر من الوصاية والولاية. ومن "ثقافات" في عددها الرابع والأخير الذي هو لخريف 2002، عودة لناصر الدين الأسد بدراسته المعنونة "طه حسين وثقافتنا العربية" لأن في هذه الدراسة ملمحاً من ثقافة تهرب الى الأمام، وكأنها تنكر ما كان من ماضيها الجدالي، ومن جرأة من رحل بعد أن أسس خطابه العقلي على كثير من الشك بالمسلمات وثوابت الهوية المطمئنة الى رسوخها في ماضٍ قريب، تتنكر به لماضيها الفرعوني البعيد. فلولا مفاجأة العنوان للقارئ، لما كانت هذه المساءلة لدراسة تصفح عن نقض موضوعية من تناولوا طه حسين في حياته وبعد مماته للمنهج العلمي، الذي يدعو اليه ناصر الدين الأسد، اذ يقول: "لا يجوز ان يؤخذ الحكم على طه حسين، ولا على أديب غيره، من جملة واحدة قالها او كتبها، ولا من فكرة وردت في أحد كتبه، ولا من قولة نطق بها في موقف دعته ظروف الارتجال، او ظروف الجدال والمخاصمة الى قولها" فإذا كان "مستقبل الثقافة في مصر قد ناب عن تقريرين كان من المفروض ان يقدمهما طه حسين الى وزارة المعارف حينئذ، بعد ان عاد من مؤتمرين كانت الوزارة قد أوفدته اليهما، فإن من الطبيعي ان يكون الكتاب محصوراً في نطاق مصر، وأن تغلب صفة "المصرية" على الثقافة دون ان يكون في تلك الصفة سلخٌ للثقافة عن أصلها الكبير وصفتها العامة وهي العربية". إن "مستقبل الثقافة في مصر" لا يُردّ الى تقريرين اثنين، بعدما جعله طه حسين كتاباً يقع في جزئين، وبلغ به من الصفحات خمسمئة وخمسين صفحة، أسرع للتوكيد في الصفحة السادسة تؤثر التضامن مع أهل الشرق على التضامن مع أهل الغرب، وما عَجَبُ طه حسين الا لإيمانه "بأن وحدة الدين ووحدة اللغة لا تصلحان أساساً للوحدة السياسية، ولا قواماً لتكوين الدول، فالسياسة شيء والدين شيء آخر". والمثال على ذلك: "ان المسيحية التي ظهرت في الشرق قد غمرت أوروبا واستأثرت بها دون غيرها من الديانات، بغير ان تصبح أوروبا شرقية، او ان تتغير فيها طبيعة العقل الأوروبي. فالمسيحية - برأي طه حسين - لم تمسخ العقل الأوروبي ولم تخرجه عن يونانيته العقلية الموروثة. لذا، من أجهل الجهل، وأخطأ الخطأ ان يقال ان الحضارة الأوروبية مادية صدرت عن المادة الخالصة. فهل ينكر منكر ان الأوروبيين أخذوا الديانات السماوية عن الشرقيين فكان منهم المسيحي والمسلم واليهودي؟ أفتكون هذه الديانات روحاً في الشرق، ومادة في الغرب؟" ثم "ان اللغة العربية ليست لغة المسلمين وحدهم، ولكنها لغة الذين يتكلمونها، مهما تختلف أديانهم، ومنهم الأقباط الذين أرى في كنيستهم القبطية مجداً مصرياً قديماً، ومقوماً من مقوّمات الوطن". فناصر الدين الأسد إذ لم يؤخذ بريادة طه حسين، وحدسه الرائي، راح يشكو من غياب المنهج العلمي في كتابات النقاد الذين تناولوا هذا الموسوعي الأفق، فإذا بناصر الدين يوقع نفسه أيضاً في فخ الانحياز "العربي" اذ يغض الطرف "في مستقبل الثقافة في مصر" عن أهداف طه حسين المتوسطية والأوروبية والقبطية والفرعونية. فطه حسين اذ يذكر ماضيه، يعني به ماضي حضارته الفرعونية، التي اخترقت اليونان بعظمة عقلها وفلسفتها ومدارسها، وهو ماضٍ طالما دعا توفيق الحكيم الى استيحائه قائلاً: "ان البعث فكرة أساسية من أفكار مصر الثابتة. ولدت في العهد الوثني الأول بغير ان تتلاشى مع العهد المسيحي او العهد الاسلامي. فمصر لم تكن لتقبل اعتناق المسيحية او الاسلام ديناً لها، لو لم تجد في هذين الدينين فكرة البعث في جوهرهما". فالذي قاله توفيق الحكيم في كتابه "تحت شمس الفكر" عاد ليرفعه شعاراً في عودة الروح بجزئيها: لا ثم كيف يرى ناصر الدين الأسد الى معلّم الهيروغليفية محسن لطفي السيد اذ يقول في العدد الصادر في السادس من تموز يوليو 2003 في "أخبار الأدب": "عبدالناصر غرس في نفوسنا وبقوة الحكم العسكري ان مصر عربية وليست فرعونية" كما ان التيار الديني وصف آثارنا بالوثنية. فزادت الفجوة بين الشباب المصري وبين تاريخه، وهذا مقصود، لأن الانسان الذي بلا تاريخ، ليست له جذور، لذا حطموا تاريخنا لحساب العروبة التي هي وهم، لأن مصر ليست عربية ولا يمكن ان تكون عربية، لا علمياً، ولا عقلياً، ولا طبيعياً، كما وان اللغة العربية فرضت علينا عندما جاء العرب واضطروا لتغيير لغتنا وديننا، وهو ما لم يحدث في إيران الدولة المسلمة التي تتكلم بالفارسية، او في تركيا، حيث الأتراك شعب متدين جداً ويتحدث بالتركية، ونفس الأمر في باكستان التي تضم 150 مليون مسلم، لذلك ليس معنى ان تكون مسلماً، ان تتحدث العربية"! وأين يقف ناصر الدين الأسد من توفيق الحكيم في كتابه "الأحاديث الأربعة" اذ يقول: "ان الأديان هي أديان نسبية، تختص بها أرض دون أرض، لأن البشرية نفسها نسبية". ومن نسبية الأديان اختلاف الشراح عليها، ومجادلتهم في تأويلها، وانقسامهم حولها في مذاهب وملل ونحل. فالشراح والنقاد، في نظر طه حسين وتوفيق الحكيم، أخذوا عن رؤسائهم طبائع الاستبداد والأمر والتطويع، ولو انهم ليسوا قدس الأقداس، ولا ملح الأرض، بل ربما تقع عليهم مسؤولية "القراءة على"، وهي قراءة "بلغة الغير وعبره" تحول التاريخية البعيدة هوية تضاف الى العروبة فتغنيها وتثريها، لأن الانسان الفرد ليس هوية منمطة، فهو في "مضمره" هويات تتعدد، وربما تتنافس، وهو في "ظاهره" تقيات يكتمها، او يؤولها، وهو في الحالين وريث ثقافة منفتحة الأبعاد، لأنها مرهونة بامتدادها التاريخي لا بحركتها الحلزونية تعود من حيث تبدأ. فالثقافة لا تعني العودة الى الجذر او الأصل للوقوف عنده، "فمثل هذه العودة تجعل من الثقافة، كياناً أسطورياً، اي انها تعزل الثقافة عن التاريخ والزمن والانسان، وتحولها الى طقس يحرّك الانسان باتجاه نرجسي يميزه التعالي المرضي، الذي تعقبه العزلة". وإذا كان لناصر الدين الأسد اعتبار بما سبق من قراءات الفقهاء، وتسويتهم بين الآراء والاجتهادات مهما تضاربت، فله من قاضي البصرة عبيد الله بن الحسين قوله في "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة: "كل ما جاء به القرآن حق، ويدل على الاختلاف. فالقول بالقدر صحيح، وله أصل في الكتاب، والقول بالاجبار صحيح وله أصل في الكتاب، ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بهذا فهو مصيب، لأن الآية الواحدة ربما دلّت على وجهين مختلفين". فإذا كان لنا من تسوية الاختلاف مَثَلٌ في الفقه، فليكن كمثله في الانتماء، وتراكم طبقات التاريخ، بشواهد تؤكد عظمته، كتاريخ مصر الفرعوني، وهو تاريخ يعتدّ به، نظيراً شامخاً لتاريخ أشور وبابل، حتى ولو ان فيهما كانت مأساتنا في الاختلاف والعراقة والعلوم والهندسة والغيب والخلود، مما جعل الغرب يشد الرحال بمستشرقيه وجحافله، لعله ينتزع من هذه الأرض بعض مجد، يحمله معه، وينسبه لغزواته وانتصاراته، فيرتد عليه عاراً، هو عار البدائية والتوحش والاقصاء! دون "قراءة الذات وعبرها". هذه الدعوات تصدر منذ مطلع النهضة او ما سمي نهضة، صار علينا قراءة اركيولوجياتها المتراكمة لنتبين منها الأصل، إذا كان من أصل. فلو عاد ناصر الدين الأسد الى المأثور الديني لوجد ان الشبهة بما هي تساؤل واعتراض ورفض ومخالفة، كانت محرّكاً للتاريخ البشري، ومفتاحاً لتطوره، كأول شبهة وقعت في الموروث الديني، وتمثلت في تساؤل بعضهم "عما منعوا من الخوض فيه" فاستكبروا على الأمر بقياس العقل، وتحريره من أمبريالية الواحد التي تستعبده. فناصر الدين الأسد اذ يسقط على طه حسين صدق عروبته، يبقى ان فرعونية طه حسين شرقية، لا اسلامية، بل قومية فرعونية. وناصر الدين الأسد إذ شاء ان يقرأ عروبة طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر" ويعرض عن فرعونية توفيق الحكيم، يجابهه اليوم سؤال حيّ وملحّ وطريّ زمنه، يطرحه أحمد عبدالمعطي حجازي في الخامس والعشرين من أيار مايو 2003، إذ يقول في "أخبار الأدب": "أكان مكتوباً على مصر ان تصير عربية بدخول العرب اليها؟ ان العرب دخلوا مصر سنة 640 ميلادية، وظلت قرى كثيرة حتى القرن الحادي عشر تتكلم بالقبطية، اي الى نهاية العصر الفاطمي. ولم يكن يتحدث العربية في مصر الا أهل المدن التي استقر فيها العرب. ففي ذلك الوقت كانوا يصورون لنا العروبة وكأن العرب كلهم قدموا الى مصر. فالعروبة ليست دماً، وفي تقديري ليس هناك ما يسمى قومية عربية، فلكي تكون هناك "قومية" لا بد ان تكون هناك أمة، هذه الأمة غير موجودة، هناك أمم كثيرة". منه: "أن مستقبل الثقافة في مصر مرتبط بماضيها البعيد" الذي جعل طه حسين يسأل أيضاً منذ الصفحة السابعة: "أمصر من الشرق الثقافي أم من الغرب الثقافي؟". وكان في يقينه "ان العقل المصري منذ عصوره الأولى عقل تأثر بالبحر الأبيض المتوسط"، وذُكر أحسن الذكر في شعر اليونانيين ومؤرخيهم، ومنهم هيرودوت الذي قال منذ القرن الخامس قبل الميلاد "ان اليونانيين في عصورهم الراقية كانوا تلاميذ المصريين في الحضارة وفي فنونها الرفيعة وفي هندستها الجبارة". وإذ يؤكد طه حسين تنبه هيرودوت الى تفاعل مصر واليونان قديماً يقول: "ان العقل المصري ليس عقلاً شرقياً، بل انه ينتمي الى أسرة الشعوب التي عاشت حول بحر الروم". فطه حسين كان يعجب من جماعة مصرية تسمي نفسها "جماعة الرابطة الشرقية" التي